
-6-
نموّ الجيش الأحمر
بدأ حديث ماو تسي تونغ يتحوّل تدريجيا عن "تاريخه الشخصي" إلى الانصهار في حركة عظيمة لا تراه كشخصية فيها بالرغم من أنّه لا زال يلعب الدور الأساسي فيها. لم تعد ترى في الحديث كلمة "الأنا" واستبدلت بـ "نحن"، واستبدل ماو تسي تونغ بالجيش الأحمر، لم يعد يعطي الحديث الانطباع الذاتي لتجارب حياة فردية وأصبح تسجيلا موضوعيا يدوّنه مراقب مهتمّ بتمخّضات مصير إنساني جماعي كموادّ للتاريخ.
وكلّما اقتربت نهاية قصّته كان عليّ ان أعود باستمرار لاستجوابه عن نفسه، ماذا كان يعمل في تلك الفترة؟ ماذا كان مركزه؟ ما هو موقفه في هذه القضية أو تلك؟ ولكن أسئلتي بشكل عام لم تر أيّ إشارات عن نفسه في الفصل الأخير من القصّة.
"بدأ يتطوّر عمل الجيش على الصّعيد الجماهيري بصورة تدريجية كما بدأت تنمو أواصر الانضباط وتطوّره التكنيكي الحديث في التنظيم، وبدأ الفلاحون يتوافدون من كلّ صوب لمساعدة الثورة، ومنذ أيّام تشينغكا نشان كان على المقاتل الأحمر أن يلتزم بثلاث تعليمات أساسية في نضالاته الجماهيرية وهي:
(1) الطاعة السريعة للأوامر.
(2) عدم مصادرة أيّ شيء مهما كان من ممتلكات الفلاحين الفقراء.
(3) تسليم كلّ المواد المصادرة من الإقطاعيين ووضعها تحت تصرف الحكومة بشكل فوري.
ومنذ مؤتمر عام 1928 تضافرت جهود مركّزة لكسب دعم الفلاحين كما أضيفت تعليمات تنظيمية جديدة إلى المبادئ الثلاث الأولى وهي:
(1) أعد جميع الأبواب إلى أماكنها عند مغادرة البيت(1).
(2) أعد ترتيب فراش القش الذي تستعمله في النوم.
(3) كن مؤدبا وخلوقا مع الناس وساعدهم بقدر إمكانياتك.
(4) أعد كلّ ما تستعيره من أشياء.
(5) ادفع تعويضا لكلّ ما تتسبّب في تخريبه.
(6) كن أمينا صادقا في جميع مداولاتك وتعاطيك مع الفلاحين.
(7) ادفع ثمنا كاملا لكلّ ما تشتريه من مواد.
(8) حافظ على الصحة العامة ولا تُقم مرافق عامة قُرب بيوت الشعب.
بدأت هذه التعليمات الثمانية تُطبّق بنجاح أكبر وما تزال حتّى اليوم من القوانين الملزمة للمقاتل الأحمر، ويحفظها غيبا ويردّدها في كلّ المناسبات(2) كما تعلّم الجيش الأحمر على السّعي لواجبات وأهداف رئيسية أخرى وهي:
(1) النضال حتّى الموت ضدّ العدوّ.
(2) تسليح الجماهير والاعتماد عليها.
(3) جمع التبرّعات لدعم النّضال.
في أوائل عام 1929 أُعيد تنظيم وحدات الأنصار التي يقودها لي ون لنغ
والأخرى التي يقودها لي سوتشو بين صفوف الجيش الأحمر الثالث الذي كان يقوده وانغ كونغ لو، والذي عمل فيه تشو يي كمفوض سياسي. في نفس الوقت تمرّدت بعض قوات المنتوآن التابعة لجيش تشو باي تيه وانضمّت للجيش الأحمر وقادهم إلى معسكرات الشيوعيين قائد كومنتانغي يدعى لوبنغ هوي كان قد فقد ثقته بالكومنتانغ، وطلب الانضمام للجيش الأحمر، ويعمل حاليا قائد الجيش الثاني والثلاثين في جيش الجبهة الثاني.
ولد الجيش الأحمر الثاني عشر من نواة للقوات الحمراء النظامية ومن الأنصار المتواجدين في فوكيين، كان وو تشونغ قائدا لهذا الجيش، كما كان تاي تسونغ لينغ مفوّضه السياسي ولكن وو قتل بعدها في معركة فحلّ مكانه لوبنغ هوي.
نظّمت فرقة الجيش الأولى في هذه الفترة وأصبح تشوتيه قائدا لها وأصبحت مفوّضها السياسي، وقد تشكّل هذه الجيش من الجيش الثالث والجيش الرابع الذي يقوده لين بياو والجيش الثاني عشر بقيادة لوبنغ هوي، كانت القيادة في هذا التشكيل الجديد متمثّلة بلجنة جبهويّة كنت رئيسها. وكانت فرقة الجيش الأولى تتشكّل من أكثر من عشرة آلاف مقاتل موزّعة على عشرة كتائب، إضافة إلى هذه القوّة الرئيسية كانت هناك عدّة وحدات محليّة من الحرّاس الحمر ومن الأنصار.
يعود الفضل في هذا التطوّر العسكري الناجح إلى تكتيك الحمر والى الأساس السياسي للحركة. وقد اعتمدت أربعة شعارات في تشينغكا نشان تعطي لمحة عن أساليب حرب الأنصار المتّبعة آنذاك والتي أدّت إلى نموّ الجيش الأحمر وهي:
(1) عندما يتقدّم العدوّ علينا أن نتراجع.
(2) عندما يتوقّف العدوّ ويعسكر نبدأ في مناوشته.
(3) عندما يتحاشى العدو معركة نهاجمه.
(4) عندما يتراجع العدوّ نلاحقه.
كان العديد من الرجال العسكريين التجريبيين يعارضون هذا التكتيك في بداية الأمر، غير أنّ التجربة أثبتت صحّته حيث لم يكن الجيش الأحمر يحقّق نجاحا إذا ابتعد عن هذه المبادئ بصورة عامّة، كانت قوات العدوّ تفوق قواتنا القليلة العدد من عشرة إلى عشرين ضعف عدديا، كما كانت إمكانياتنا القتاليّة محدودة ولم يكن بمقدورنا التغلّب على الكومنتانغ إلاّ باستخدام التكتيك الذكيّ المتحرّك لحرب العصابات لأنّ أعداءنا كانوا يحاربون من قواعد تفوقنا كثيرا.
كان أهمّ تكتيك مميّز للجيش الأحمر، كما لا يزال، قدرته على تركيز قواته الرّئيسية في الهجوم وانتشارها وتوزيعها بسرعة بعد انتهاء الهجوم. وبتعبيرات أخرى يجب علينا أن نتحاشى حرب المواقع وأن نركّز كلّ الجهود لمباغتة قوى العدوّ الحيّة أثناء حركتها وتحطيمها، وعليه فقد تطوّرت حركة الجيش الأحمر الذي اعتمد على الهجوم السريع المباغت والقوي والانتشار السريع أمام قوات العدوّ.
كانت برامج الجيش الأحمر تعتمد على توسيع رقعة مناطق السوفيتات بشكل عام، واتّبع تطوّرا متناسقا شبيها بالأمواج بدل من التقدّم غير المتناسق القائم على طفرات وبدون تلاحم متين بين الأراضي المحرّرة. كانت هذه سياسة تجريبيّة اُكتسبت ونمت خلال خبرة سنين متلاحقة من النّضال. عارض لي لي سان تكتيكنا بشدّة وطالب بتركيز جميع الأسلحة في أيدي الجيش الأحمر وبامتصاص جميع قوى الأنصار إلى الجيش. كان يريد الهجوم بدلا من تثبيت السلطة الجماهيرية في المناطق المحرّرة، والتقدّم دون الالتفات الى المؤخّرة، وهجمات صاخبة على المدن ترافقها تمرّدات بالدّاخل. كان خط لي لي سان يطغى على الحزب خارج حدود مناطق السوفيتات. كان مؤثّرا لدرجة فرض على الجيش الأحمر اتّباعها بالرّغم من عدم قناعة قائده بها. وكان من نتائجه الهجوم على تشانغشا والتقدّم نحو نانتشانغ. غير أنّ الجيش الأحمر حال دون تسريح قوات الأنصار ودمجها في الجيش، كي لا يترك المؤخّرة مفتوحة أمام العدوّ خلال هذه التحرّكات المغامرة.
في خريف عام 1929 تحرّك الجيش الأحمر نحو شمال كيانغسي مهاجما عدّة مناطق ومحرّرا مدنا كثيرة وقد سجّل هزائم متعدّدة بين صفوف الجيوش الكومنتانغية. وعندما أصبحت فرقة الجيش الأولى على مقربة من نانتشانغ استدار غربا وحوّل هجومه تجاه تشانغشا. وهكذا استطاع توحيد قوّاته مع قوّات بنغ تيه هواي الذي كان قد احتلّ تشانغشا مرّة سابقة ولكنّه اضطرّ للانسحاب ليتحاشى محاصرة القوات المعادية التي تفوقه كثيرا. كُلّف بنغ بمغادرة تشينغكانشان في نيسان عام 1929 فقام بعدّة عمليّات ناجحة في جنوب كيانغسي نتج عنه تزايد ملحوظ في قواته.
أُعيد اندماج القوات الرئيسية التي يقودها تشو تيه والجيش الأحمر في جويشين في عام 1930. وبعد المؤتمر تقرّر أن يعمل جيش بنغ الثالث في مناطق الحدود بين كيانغسي وهونان بينما تقرّر نقلي وتشو تيه إلى فوكيين. وأعيد الاتّصال بين الجيش الثالث وفرقة الجيش الأولى في حزيران عام 1930 وبدأ هجومهما الثاني على تشانغشا.
اندمج الجيش الثالث وفرقة الجيش الأولى وسمّي جيش الجبهة الأوّل وكان تشو تيه قائدا عامّا له وكنت مفوّضه السياسي، وعلى هذا النّحو وصلنا أسوار تشانغشا.
شُكلت اللّجنة الثّوريّة للعمّال والفلاّحين الصّينيين في هذه الفترة واُنتخبتُ رئيسا لها. كان تأثير الجيش الأحمر في هونان بعيد الانتشار مثلما كان في كيانغسي. كان الفلاحون الهونانيون يعرفون اسمي لأنّه منحت مكافآت كبرى لمن يعتقلني حيّا أو ميّتا، كما منحت نفس المكافآت ثمنا لتشو تيه وآخرين من القادة الحُمر، قام الكومنتانغ بمصادرة قطعة الأرض(3) التابعة لي في هسيانغ تان. واعتقل هوشيين كلاّ من زوجتي وشقيقتي وزوجتيْ أخويّ، ماو تسي هونغ وماو تسي تان، كما أعتقل ولدي وأعدم زوجتي وشقيقتي الصّغرى وأطلق سراح الآخرين فيما بعد.
وصلت شهرة الجيش الأحمر إلى أسماع أبناء قريتي هسيانغ تان حيث اعتقد الفلاّحون بأنّني سأصل قريبا إلى مسقط رأسي، وحدث مرّة أن مرّت طائرة فوق القرية فتصوّروا أنّها تُقلّني وحذّروا الرّجل الذي يعمل في أرضي بأنّني عُدتُ لأرى مزرعتي وإذا ما اُقتلعت أشجارها أم لا.
ولكن الهجوم الثاني على تشانغشا مُني بالفشل، فقد عزّزت المدينة بقوات ضخمة وكانت تشكّل حماية جيّدة لها، بالإضافة إلى ذلك كانت تتوافد قوات جديدة لمهاجمة الجيش الأحمر في هونان، فحصلت معركة عنيفة كان لها دور مهمّ إذ استطاع الجيش الأحمر فيها تحطيم لواءين من قوّات العدوّ، ولكنّنا لم نستطع السيطرة على المدينة، وبعدها بأسابيع انسحبنا إلى كيانغسي.
ساعد هذا الفشل في تحطيم خط لي لي سان وأنقذ الجيش من هجوم على ووهان كان سيتعرّض فيه إلى نتائج وخيمة. كانت مهمة الجيش الأحمر الرئيسية تنصبّ على إقامة السّوفيتات في مناطق ريفيّة جديدة واستقطاب المزيد من المتطوّعين وتنظيمهم في الجيش، وفوق كلّ شيء كان يهمّه تعميق السلطة الشعبيّة في المناطق المحرّرة. ولتطبيق برنامج من هذا النّوع، لم يكن من الضروري القيام بهجوم مغامر على تشانغشا بل على العكس من ذلك. غير أنّه لو اعتبر الاحتلال الأوّل للمدينة مهمّة تكتيكية بحيث لا يستهدف الجيش الأحمر الاستمرار في المدينة وإقامة سلطة هناك، لكان أثرها عظيما على الحركة الثورية لأنّه من الخطأ استراتيجيا وتكتيكيا محاولة إقامة قاعدة في تشانغشا في حين لم تُعمّق السلطة السيوفياتية في المؤخّرة بعد".
أرى أن نتوقّف لحظة عن سرد ما يرويه ماو تسي تونغ لوضع بعض الملاحظات حول لي لي سان.
لي لي سان، هوناني عاد من فرنسا بعد دراسته هناك، كان يُمضي وقته بين شانغهاي وهانكو حيث كان الحزب الشيوعي يقيم مراكز سرية رئيسية له، ولم تنتقل اللّجنة المركزية إلى المقاطعات السوفياتية إلاّ بعد عام 1931. كان لي أحد الشيوعيين الصينيين وأقربهم إلى تروتسكي من أيّ شخص آخر في الصين، كان له نفوذ واضح ومؤثر في الحزب من عام 1929 حتّى عام 1931، حين عُزل من المكتب السياسي وأُرسل إلى موسكو ليتمّ تعليمه وقد بقي هناك. كان لي لي سان لا يثق بالسوفيتات الريفية شأنه بذلك شأن تشن توهسيو ويدعو إلى هجوم قويّ على العواصم الاستراتيجية الكبرى مثل تشانغشا وووهان ونانتشانغ، وكان يطالب بالإرهاب في القرى لضرب معنويات الأسياد وبأن يقوم العمال بهجوم واسع وبإضرابات وتمرّدات في المدن لشلّ حركة العدوّ في قواعده، وبمناوشات في الشمال تمتدّ من منغوليا الخارج حتّى مانشوريا مدعومة بالاتّحاد السوفياتي. كانت موسكو تدينه كثيرا إذ اعتبر الصين عام 1930 مركز الثورة العالميّة وأنكر دور الاتّحاد السوفياتي.
ونعود الآن لمتابعة ما يرويه ماو:
"و لكن لي لي سان كان يُغالي في تقدير قوّة الجيش الأحمر العسكريّة وعوامل نجاح الثورة في المسرح السياسي الوطني في تلك الفترة. كان يتصوّر بأنّ الثورة أوشكت على الانتصار وأنّها ستتسلّم السّلطة في الصين. وعزّزت الحرب الأهليّة الطّويلة والمنهكة بين فنغ هيو هسيانغ وتشيانغ كاي شيك هذا الاعتقاد لدى لي لي سان واعتبرها فرصة سانحة للنصر النهائي. ولكن الجيش كان يقدّر بأنّ العدوّ يهيّء لعمليات واسعة ضدّ السوفيتات، ما إن ينتهي من حسم خلافاته الدّاخليّة، وليس من المناسب القيام بمغامرات تكون عواقبها وخيمة. وقد ثبتت صحّة هذا التقدير.
تم القضاء على اتجاه لي لي سان في الجيش بعد أحداث هونان وعودة الجيش الأحمر إلى كيانغسي، وخاصة بعد الاستيلاء على كيان. وثبت بذلك خطأ سان مما أفقده تأثيره في الحزب، ولكن الجيش عاش فترة حرجة قبل التخلص الكامل من الليليسانية. كان جزء من الفرقة الثالثة من أتباع اتجاه لي لي سان، وطالب بفصل الفرقة الثالثة عن بقية الجيش، وقف بنغ تيه هواي يناضل بحرارة ضد هذا الاتجاه ونجح في الحفاظ على وحدة القوات بقيادته وبولائها للقيادة العليا، ولكن الجيش العشرين الذي يقوده ليوتي تساو أعلن تمرّده وقام باعتقال رئيس سوفيات كيانغسي واعتقل العديد من الضباط والموظفين وهاجمنا في كلّ سياساته معتمدا خط لي لي سان، حدث هذا في فوتيين وأصبح معروفا باسم حادثة فوتيين. وبما أنّ فوتيين كانت قريبة من كيان، مركز المقاطعات السوفياتية، اعتقد الكثيرون أنّ قدرة الثورة تعتمد على نتيجة هذا الصراع، ولكن التمرد أُخمد بسرعة، ساعد في ذلك ولاء الجيش الثالث ووحدة الحزب والقوات الحمراء وتكاتفها ومساندة الفلاحين على نطاق واسع. فتمّ اعتقال ليوتي تساو وجُرّد المتمرّدون الآخرون وتمّ تصفيتهم، وأعيد تثبيت خطّنا بعد أن أٌخمدت الليليسانية تماما. وكنتيجة لذلك سجلت حركة السوفيتات مكاسب عظيمة ومشرقة.
تنبهت نانكينغ للإمكانيات الثورية الكامنة في سوفيتات كيانغسي وبدأت حملتها الإبادية الأولى ضد الجيش الأحمر عام 1930، إذ تحرّكت قوات معادية تعدّ أكثر من مئة ألف رجل لدخول المنطقة من خمس اتّجاهات، وكان قائد الحملة العام لوتي بينغ. وبالمقابل استطاع الجيش الأحمر تعبئة ما يقارب أربعين ألف مقاتل، وعن طريق الاستخدام الذكيّ لحرب الحركة هاجمنا الحركة الأولى وسجّلنا انتصارا حاسما عليها، واتبعنا تكتيك التجمع السّريع والحركة الديناميكيّة، هاجمنا كلّ وحدة بشكل منفصل مستخدمين قواتنا الرئيسية واستطعنا أن نشنّ هجوما مركّزا وبأعداد أكبر على الوحدات المعزولة للقوات الكومنتانغيّة بعد أن استدرجناها إلى المناطق السوفياتية وحاصرنا كلّ وحدة بشكل منفصل، وعلى هذا النّحو واجهنا امتيازهم الستراتيجي العظيم القائم على التفوّق العددي.
سحقنا الحملة الأولى تماما في كانون الثاني عام 1930، ولم يكن بمقدورنا تحقيق هذه النتيجة إلاّ تبعا لثلاث ظروف تميّز بها الجيش الأحمر قبل بداية الحملة وهي: تعزيز وحدة الجيش الأوّل والجيش الثالث بقيادة مركزية واحدة، تصفية اتّجاه لي لي سان المغامر، وأخيرا انتصار الحزب على الفئة المناهضة للبلشفية وممثّلي الثورة المضادّة في صفوف الجيش الأحمر ومقاطعات السوفيتات (ليوتي تساو وزمرته ).
بعد أربعة أشهر من التقاط الأنفاس، بدأت نانكينغ حملتها الثانية وكان يقود جيوشها في ذلك الوقت هو ينغ تشن ( الذي أصبح وزيرا للحربية الآن ). كانت قواته تزيد على مئتي ألف رجل، فاقتحم المناطق الحمراء عبر سبعة اتّجاهات. كانت مساحة الأرض المحرّرة صغيرة جدّا نسبيّا، وكانت مواردنا ضئيلة ومعدّاتنا نادرة، بالمقابل كان العدوّ يتمتّع بقوّة ماديّة تفوق الجيش الأحمر على مراحل في كلّ المجالات. ولمواجهة هذا الجيش الضّخم، استمرّ الجيش الأحمر في اتّباع تكتيكه السّابق والذي أثبت نجاحا حتّى الآن، فاستدرجنا القوّات المعادية إلى المناطق الحمراء وركّزت قوّاتنا ضربتها على تجمّع العدوّ في الطّريق الثاني واستطعنا أن ندخل خسائر فادحة في عدّة كتائب ودحرها ممّا أفقد الجيش المعادي قدرته الهجوميّة، وعلى الفور وبشكل متلاحق قمنا بعدّة هجمات متتالية على الطريق الثالثة والسادسة والسابعة وهزمنا كلّ تشكيلة على حدة. فتراجعت قوّة الطّريق الرّابعة دون أيّ قتال ودمّرت قوّة الطريق الخامسة جزئيّا. قاتل الجيش الأحمر في ستّة معارك خلال أربعة عشر يوما وسار ثماني أيام وانتهى بانتصار حاسم، وبسحق أو انسحاب بقيّة فلول العدوّ. وكما انسحبت قوّة التشكيلة الأولى للعدوّ التي كان يقودها تشيانغ كوانغ ناي وتساي تينغ كاي بدون أيّ قتال فعليّ.
وبعد مرور شهر تحرّك تشيانغ كاي شيك على رأس جيش عدّ أكثر من ثلاثمائة ألف رجل متوجّها "لإبادة اللّصوص الحمر عن بكرة أبيهم"، وكان يساعده أكثر قادته كفاءة: تشنغ مينغ شو، وهو ينغ تشن، وتشو شاو ليانغ. وكان كلّ منهم مسؤولا عن مدخل رئيسي للتقدّم. توقّع تشانغ أن يباغت المناطق الحمراء بهجوم صاعق "ويمحو اللّصوص الحمر بسرعة". تحرّكت جيوشه بسرعة ثمانين لي في اليوم في قلب مقاطعات السوفيتات، وكان هذا الأمر عاملا لتهيئة الظّروف الملائمة التي يقاتل فيها الجيش الأحمر بجدارة، كما أثبتت بعد مدّة قريبة من ذلك أخطاء تشيانغ التكتيكية. كانت قواتنا الرئيسية تعدّ 30 ألف رجل واستطاعت عن طريق سلسلة من الحركات الذكية أن تهاجم خمسة تشكيلات مختلفة خلال خمسة أيّام، استولى الجيش الأحمر على كثير من السلاح والعتاد والأجهزة في المعركة الأولى كما أسر أعدادا كبيرة من الأعداء، وما إن قارب شهر أيلول حتّى اعترف العدوّ بفشله وأمر تشيانغ كاي شيك قوّاته بالتّراجع في تشرين الأوّل.
منذ ذلك التاريخ دخل الجيش الأحمر فترة من الهدوء والنمو إذ حصل انتشار سريع جدّا.
عُقد المؤتمر الأوّل للسوفيتات في 11 كانون الأوّل 1931 وأُقيمت أوّل حكومة سوفياتية مركزيّة وتمّ انتخابي رئيسا لها، كما انتخب تشو تيه قائدا عامّا للجيش الأحمر، في نفس الوقت حصلت انتفاضة نينغتو العظيمة إذ تمرّد ما يزيد على عشرين ألف جندي من الجيش الثامن والعشرين التابع للكومنتانغ وانضمّوا إلى الجيش الأحمر، كان على رأس الانتفاضة تنغ تشينغ تان وتساوبو شين (قتل في معركة كيانغسي) أمّا تنغ فهو قائد الجيش الأحمر الخامس اليوم والذي شكّل من القوات المتمرّدة في حادث الانتفاضة.
بدأ الجيش الأحمر أوّل هجوم استراتيجي له في عام 1932 إذ خاض معركة كبيرة في تشانغتشو في ولاية فوكيين وحرّر المدينة، وفي الجنوب هاجم الجيش الأحمر تشن تشي تانغ في ولاية تان هيسانغ ولوآن ولي تشوان وتشيين نينغ وتان ينغ على جبهة تشيانغ كاي شيك، كما هاجم كانتشو ولكنّه لم يستطع اقتحامها. ومنذ تشرين الأوّل من عام 1932 وما بعدها، حتّى بداية المسيرة الكبرى إلى الشمال الغربي، كرّست معظم وقتي لمهمات العمل في حكومات السوفيات بشكل رئيسي تاركا مهمة القيادة العسكرية لتشوتيه وآخرين.
في نيسان من عام 1933 بدأت حملة نانكينغ الرابعة المركّزة لإبادة(4) الجيش الأحمر والتي تعتبر من أخطر وأشدّ الحملات بأسا على جيش نانكينغ. وفي الجولة الأولى من هذه المعركة جُرّدت فرقتان من الأسلحة وأُسر قائداهما كما حُطّمت الفرقة الثانية والخمسين تماما ودُمّر جزء كبير من الفرقة التاسعة والخمسون وأُسر في هذه المعركة 13.000 رجل في تالونغ بنغ وتشساو هوي في لوآن هسيين. بعدها تمّ تدمير فرقة الكومنتانغ الحادي عشر والتي كان يعتزّ بها تشيانغ كاي شيك ويعتبرها مفخرة فرقه. وجُرّد معظمها من الأسلحة كما أُصيب قائدها بجروح بالغة.
أٌعتبرت هذه اللّقاءات نقاط تحوّل حاسمة في تاريخ الجيش الأحمر وقد انتهت بعدها الحملة الرابعة بقليل. كتب تشيانغ كاي شيك في هذه الفترة إلى تشين تشنغ قائد الميدان يخبره أنّ هذه الهزيمة كانت أعظم هزيمة واجهها في حياته.
لم يكن تشين تشنغ مقتنعا بالاستمرار في حملته ضدّ الحمر كما أعلن رأيه "انّه يعتبر مقاتلة الحمر أمرا طويل الأمد لا يمكن الوصول إلى نهايته مدى الحياة". ولمّا وردت هذه التقارير لتشيانغ كاي شيك، عزله عن منصبه كقائد أعلى.
في الحملة الخامسة والأخيرة جنّد تشيانغ كاي شيك ما يقارب المليون رجل واتبع تكتيكا واستراتيجية جديدتين. إذ بدأ تشيانغ منذ حملته الرابعة أسلوب الحصار والتحصين بناءا على توصيات مستشاريه الألمان، أمّا في حملته الأخيرة فقد اعتمد هذا الأسلوب اعتمادا كليّا.
في هذه الفترة وقعنا في خطأين مميتين أوّلهما هو عجزنا عن إقامة وحدة متماسكة مع جيش تساي تينغ كاي عام 1933 أثناء تمرّد فوكيين. وثانيهما هو تبنّي الاستراتيجية الخاطئة في اعتمادنا على الدّفاع فقط مهملين تكتيكنا السابق في حرب الحركة.
كان خطأ مميتًا أن نواجه قوّات نانكينغ المتفوّقة عدديّا وبنسب خياليّة باتّباع تكتيك حرب المواقع والتي لم يكن الجيش الأحمر مؤهّلا لها فنيّا ونفسيّا.
وكنتيجة لهذه المسببات وللتكتيك والاستراتيجية الجديدين للحملة الجديدة، يضاف إليها التفوّق في العدد والعدّة للقوات الكومنتانغيّة، اضطرّ الجيش الأحمر عام 1934 لتغيير ظروف وجوده في كيانغسي التي أصبحت تزداد خطرا. ومن ناحية أخرى أدّت هذه الظّروف السياسيّة الوطنيّة إلى اتّخاذ قرار بنقل مسرح العمليّات الرئيسية إلى الشمال الغربي، خاصّة بعد غزو اليابان لمانشوريا وشانغهاي، إذ أنّ الحكومة الشّعبيّة أعلنت الحرب رسميّا ضدّ اليابان في شباط عام 1932. غير أنّنا لم نستطع تطبيق هذا الموقف عمليّا نتيجة الحصار الذي فرضته القوّات الكومنتانغيّة على المقاطعات المحرّرة، وقد دعونا في بيان عامّ إلى إقامة جبهة وطنيّة متّحدة من مجموع القوى المسلّحة في الصّين لمقاومة الإمبريالية اليابانية. وقد أعلنت الحكومة السوفياتية في أوائل عام 1933 استعدادها للتعاون مع الجيش الأبيض على أساس إيقاف الحرب الأهليّة وإيقاف الهجمات على مناطق السوفيتات والجيش الأحمر وتأمين الحريات المدنية العامة والحقوق الديمقراطية لكلّ الجماهير وتسليحها وتأهيلها لحرب مناهضة لليابان.
كانت حرب الإبادة الخامسة قد بدأت قي تشرين الأوّل عام 1933 حتّى كانون الثاني عام 1934، وإبّان هذه الحملة عُقد المؤتمر الثاني لعموم السوفيتات في الصين في جويشين العاصمة السوفياتية، وطُرح تقييم شامل للإنجازات الثوريّة فيه، كما قدّمت تقريرا مطوّلا في هذا المؤتمر، وقد أنهى المؤتمر أعماله بانتخاب الحكومة السوفياتية المركزية الحالية، وبدأت التحضيرات بعدها للمسيرة الكبرى. بدأت المسيرة في تشرين الأوّل عام 1934 بعد عام من التاريخ الذي شن فيه تشيانغ كاي شيك حملته الأخيرة، وكانت نتيجتها سنة كاملة من القتال المستمرّ والنضال والخسائر الكبيرة من كلا الجانبين.
في كانون الثاني من عام 1935 وصلت طلائع القوى الرّئيسية للجيش الأحمر تسون يي في كويتشو وللأشهر الأربع التي تلت هذا التاريخ استمرّ الجيش في تحرّكه وهو يقوم بأنشط معاركه وقتالاته، ووصل الجيش الأحمر في نهاية المطاف بعد مرحلة مليئة بالصعاب والتعقيدات، وقد قطع أطول وأعمق الأنهر في الصّين وأكثرها خطرا، كما تجاوز الطرق والمسالك الجبلية الوعرة مخترقا مناطق سهلية ومكشوفة، متعرّضا للبرد والحرّ الشديدين، وواجه الثلوج والعواصف الثلجية مع ملاحقة دؤوبة من قبل آلاف القوات البيضاء ومخترقا المواقع المحلية للكومنتانغ أثناء مسيرته ومارّا بهونان وكوانغسي وكويتشو ويونان وسيكونغ وسز شوان وكامسو وشنصي إلى أن وصل شمال شنصي في تشرين الأوّل عام 1935 وأرسى دعائم القاعدة السوفياتية ووسّعها.
يعود الفضل في اتمام المسيرة الظّافرة للجيش الأحمر ووصولها منتصرة إلى كانسو وشنصي محتفظة بقوّاتها متماسكة، يعود إلى القيادة الحكيمة للحزب الشيوعي وبدرجة ثانية إلى الجرأة والتصميم العظيمين والحسّ الثوري المندفع، والقدرة الفائقة لدى هذه القوّات على تحمّل المشاقّ فوق الطّبيعيّة، والتي كانت تتجلّى لدى الكوادر الأساسيّة من شعبنا السوفياتي.
إنّ الحزب الشيوعي الصيني، كان ولا زال وسيستمرّ إلى الأبد أمينا على الماركسيّة اللّينينيّة ضدّ كلّ الاتّجاهات الانتهازيّة وهذا هو سبب صموده وبقائه وانتصاره".
_________________
(1)- لا يُعتبر هذا الأمر غامضا، فالأبواب الخشيسّة للبيت الصّيني سهلة الخلع وتستعمل عادة في اللّيل كأسرّة للنّوم. (2)- كانت تنشد يوميّا كأغنية خاصّة بالجيش الأحمر.
(3)- كان يستخدم موارد هذه الأرض أثناء الثورة العظيمة لصالح الحركة الفلاحية في هونان.
(4)- كثيرون لا يعرفون بدقّة تقدير عدد الحملات الرئيسية الموجّهة ضدّ مقاطعات السوفيتات وفي كثير من القصص المرويّة عن الحرب المعادية للحمر، قدّرها بعض الكتّاب بثماني حملات للإبادة. غير أنّ العديد من الحملات التي كانت تقوم بها نانكينغ دفاعية فقط، وكما يروي القادة الحمر انّ هناك خمس حملات رئيسية مضادة لهم. وهي بالتحديد مع عدد قوات نانكينغ المشتركة في كلّ حملة كما يلي: الأولى: من ديسمبر 1930 إلى يناير 1931 عدد القوات بلغ 100000 جندي.
الثانية: من أيار إلى حزيران عام 1931 - - - 200000 جندي.
الثالثة: من تموز إلى تشرين الأوّل عام 1931 - - - 300000 جندي.
الرّابعة: من نيسان إلى تشرين الأوّل عام 1933 - - - 250000 جندي.
الخامسة: من تشرين الأوّل 1933 إلى تشرين الأوّل 1934 --- 900000 جندي.
لم تقم نانكينغ بأيّة حملة رئيسية خلال عام 1932 لأنّ تشيانغ كاي شيك كان يقف موقفا دفاعيا مستخدما قوة دفاعية تصل إلى 500000 جندي، وعلى العكس من ذلك كانت هذه السنة حافلة بالهجمات الحمراء. ومن الواضح أنّ حملات نانكينغ الدّفاعيّة عام 1932 والتي كان يروّجها الكومنتانغ بكونها "حملات مناهضة للحمر" فهمها بعض الكتّاب واعتبروها حملات هجوميّة للإبادة.