15‏/3‏/2012

مصادر الماركسية الثلاثة و أقسامها المكوّنة الثلاثة(1)


مصادر الماركسية الثلاثة و أقسامها المكوّنة الثلاثة(1)


ف. ا. لينيــــن    
            
   يثير مذهب ماركس، في مجمل العالم المتمدن، أشد العداء والحقد لدى العالم البرجوازي، كله (سواء الرسمي أم الليبرالي)، إذ يرى في الماركسية ضربا من "بدعة ضارة". ليس بالإمكان توقع موقف آخر، إذ لا يمكن أن يكون ثمة علم اجتماعي "غير متحيّز" في مجتمع قائم على النضال الطبقي. فكل العلم الرسمي والليبرالي يدافع، بصور أو بأخرى، عن العبودية المأجورة، بينما الماركسية أعلنتها حربا لا هوادة فيها ضد هذه العبودية. أن تطلب علما غير متحيّز في مجتمع قائم على العبودية المأجورة، لمن السذاجة الصبيانية كأن تطلب من الصناعيين عدم التحيز في مسألة ما إذا كان يجدر تخفيض أرباح الرأسمال من أجل زيادة أجرة العمال.
   ولكن ليس ذلك كل ما في الأمر، فإن تاريخ الفلسفة وتاريخ العمل الاجتماعي يبـيّـنان بكل وضوح أن الماركسية لا تشبه "الانعزالية" بشيء بمعنى أنها مذهب متحجر ومنطو على نفسه، قام بمعزل عن الطريق الرئيسي لتطور المدنية العالمية. بل بالعكس. فإن عبقرية ماركس كلها تتقوم بالضبط في كونه أجاب على الأسئلة التي طرحها الفكر الإنساني التقدمي، وقد ولد مذهبه بوصفه التتمة المباشرة الفورية لمذاهب أعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية.
   إن مذهب ماركس لكـلّي الجبروت، لأنه صحيح. وهو متناسق وكامل؛ ويعطي الناس مفهوما منسجما عن العالم، لا يتفق مع أي ضرب من الأوهام، ومع أية رجعية، ومع أي دفاع عن الطغيان البرجوازي. وهو الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الفرنسية.
   وإننا سنتناول بإيجاز مصادر الماركسية الثلاثة هذه، التي هي في الوقت نفسه أقسامها المكوّنة الثلاثة.

1
   إن المادية هي فلسفة الماركسية. في غضون كل تاريخ أوروبا الحديث، ولاسيما في أواخر القرن الثامن عشر، في فرنسا، حيث كان يجري نضال حاسم ضد كل نفايات القرون الوسطى، ضد الإقطاعية في المؤسسات وفي الأفكار، كانت المادية الفلسفة الوحيدة المنسجمة إلى النهاية، والأمينة لجميع تعاليم العلوم الطبيعية، والمعادية للأوهام ولتصنّع التقوى، الخ.. ولذا بذل أعداء الديمقراطية كل قواهم "لـدحض" المادية، لتقويضها، للافتراء عليها؛ ودافعوا عن شتى أشكال المثالية الفلسفية التي تؤول ابدا، على نحو أو آخر، إلى الدفاع عن الدين أو إلى نصرته.
   وقد دافع ماركس وانجلس بكل حزم عن المادية الفلسفية وبيّنا مرارا عديدة ما في جميع الانحرافات عن هذا الأساس من أخطاء عميقة. ووجهات نظرهما معروضة بأكثر ما يكون من الوضوح والتفاصيل في مؤلفي أنجلس: "لودفيغ فورباخ" و"دحض دوهرينغ"(2)، اللذين هما، على غرار "البيان الشيوعي"، الكتابان المفضلان لدى كل عامل واع.
   ولكن ماركس لم يتوقف عند مادية القرن الثامن عشر، بل دفع الفلسفة خطوات إلى الأمام. فأغناها بمكتسبات الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ولا سيما بمكتسبات مذهب هيغل، الذي قاد بدوره إلى مادية فورباخ. وأهم هذه المكتسبات، الديالكتيك، أي نظرية التطور بأكمل مظاهرها وأشدها عمقا، وأكثرها بعدا عن ضيق الأفق، نظرية نسبية المعارف الإنسانية التي تعكس المادة في تطورها الدائم. إن أحدث اكتشافات العلوم الطبيعية – الراديوم، والالكترونات، وتحوّل العناصر – قد أثبتت بشكل رائع صحة مادية ماركس الديالكتيكية، رغم أنف مذاهب الفلاسفة البرجوازيين ورغم ردّاتهم "الجديدة" نحو المثالية القديمة المهترئة.
   وقد عمق ماركس المادية الفلسفية وطوّرها، فانتهى بها إلى نهايتها المنطقية ووسع نطاقها من معرفة الطبيعة إلى معرفة المجتمع البشري. إن مادية ماركس التاريخية كانت أكبر انتصار أحرزه الفكر العلمي، فعلى إثر البلبلة والاعتباط اللذين كانا سائدين حتى ذلك الحين في مفاهيم السياسة والتاريخ، جاءت نظرية علمية روعة في التناسق والتجانس والانسجام، تبيّن كيف ينبثق ويتطور، من شكل معين من التنظيم الاجتماعي، ومن جراء نمو القوى المنتجة، شكل آخر، أرفع، – كيف تولد الرأسمالية من الإقطاعية، مثلاً.
   وكما أن معرفة الإنسان تعكس الطبيعة القائمة بصورة مستقلة عنه، أي المادة في طريق التطور، كذلك تعكس معرفة الإنسان الاجتماعية (أي مختلف الآراء والمذاهب الفلسفية و الدينية والسياسية، الخ.) نظام المجتمع الاقتصادي. إن المؤسسات السياسية تقوم كبناء فوقي على أساس اقتصادي، فإننا نرى، مثلا، كيف أن مختلف الأشكال السياسية للدول الأوروبية العصرية هي أدوات لتعزيز سيطرة البرجوازية على البروليتاريا.
   إن فلسفة ماركس هي مادية فلسفية كاملة، أعطت الإنسانية، والطبقة العاملة بخاصة، أدوات جبارة للمعرفة.

2
   بعدما لاحظ ماركس أن النظام الاقتصادي يشكل الأساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي السياسي، أعار انتباهه أكثر ما أعاره لدراسة هذا النظام الاقتصادي. ومؤلف ماركس الرئيسي "رأس المال" مكرّس لدراسة النظام الاقتصادي في المجتمع الحديث، أي الرأسمالي.
   لقد تكون الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ما قبل ماركس في انجلترا، وكانت أكثر البلدان الرأسمالية تطورا. فقد درس آدم سميث ودافيد ريكاردو النظام الاقتصادي فسجلا بداية نظرية القيمة-العمل. وواصل ماركس عملهما. فأعطى هذه النظرية أساسا علميا خالصا وطورها بصورة منسجمة إلى النهاية. وبيّن أن قيمة كل بضاعة مشروطة بوقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج هذه البضاعة.
   وحيث كان الاقتصاديون البرجوازيون يرون علاقات بين الأشياء (مبادلة بضاعة ببضاعة أخرى)، اكتشف ماركس علاقات بين الناس. إن تبادل البضائع يعبر عن الصلة القائمة، بوساطة السوق، بين المنتجين المنفردين. والمال (النقد) يعني أن هذه الصلة تزداد وثوقا، جامعة في كل واحد لا يتجزأ كل حياة المنتجين المنفردين الاقتصادية. والرأسمال يعني استمرار تطور هذه الصلة: فإن قوة عمل الإنسان تغدو بضاعة. فالأجير يبيع قوة عمله لمالك الأرض ولصاحب المصنع وأدوات الإنتاج. والعامل يستخدم قسما من يوم العمل لتغطية نفقات إعالته وإعالة أسرته (الأجرة)؛ ويستخدم القسم الآخر للشغل مجانا، خالقا للرأسمالي القيمة الزائدة، التي هي مصدر ربح، مصدر إثراء للطبقة الرأسمالية.
   إن نظرية القيمة الزائدة تشكل حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية.
   إن الرأسمال الذي يخلقه عمل العامل ينيخ بثـقله على العامل، ويخرب صغار أرباب العمل، وينشئ جيشا من العاطلين عن العمل. وانتصار الإنتاج الضخم في الصناعة أمر ظاهر من النظرة الأولى؛ ولكننا لنلاحظ ظاهرة مماثلة في الزراعة أيضا: فإن تفوق الاستثمار الزراعي الرأسمالي الضخم واستخدام الآلات يزدادان، والاستثمارات الفلاحية تقع في ربقة الرأسمال النقدي وتنحط ويحل بها الخراب تحت وطأة تكنيكها المتـأخر. إن أشكال هذا الانحطاط في الإنتاج الصغير تختلف في الزراعة عنها في الصناعة، ولكن الانحطاط نفسه واقع لا جدال فيه.
   إن الرأسمال، إذ يغلب على الإنتاج الصغير، يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمل وإلى خلق وضع احتكاري في صالح اتحادات الرأسماليين الكبار. وصفة الإنتاج الاجتماعية تزداد بروزا يوم بعد يوم. مئات الآلاف والملايين من العمال يُجمعون في هيئة اقتصادية متناسقة، بينما قبضة من الرأسماليين تستملك نتاج العمل المشترك. وتشتد فوضى الإنتاج، والأزمات والركض المجنون وراء الأسواق، وعدم ضمان العيش لسواد السكان.
   إن النظام الرأسمالي يزيد من تبعية العمال إزاء الرأسمال ويخلق في الوقت نفسه قدرة العمل الموحد الكبيرة.
   لقد تتبع ماركس تطور الرأسمالية منذ عناصر الاقتصاد البضاعي الأولية، التبادل البسيط، حتى أشكالها العليا، الإنتاج الكبير.
   وإن تجربة جميع البلدان الرأسمالية، القديمة منها والجديدة، تبيّن بوضوح، وسنة بعد سنة، صحة مذهب ماركس هذا لعدد متزايد أبدا من العمال.
   لقد انتصرت الرأسمالية في العالم بأسره، ولكن هذا لانتصار ليس سوى المقدمة لانتصار العمل على الرأسمال.

3
   عندما دُك النظام الإقطاعي، ورأى المجتمع الرأسمالي "الحر" النور، تبين فورا أن هذه الحرية تعني نظاما جديدا لاضطهاد الشغيلة واستثمارهم. وفورا أخذت تنبثق شتى المذاهب الاشتراكية، انعكاسا لهذا الاضطهاد واحتجاجا عليه، ولكن الاشتراكية البدائية كانت اشتراكية طوبوية. فقد كانت تنتقد المجتمع الرأسمالي، وتشجبه، وتلعنه، وتحلم بازالته، وتتخيل نظاما أفضل؛ وتسعى إلى إقناع الأغنياء بأن الاستثمار مناف للأخلاق.
   ولكن الاشتراكية الطوبوية لم تكن بقادرة على الإشارة إلى مخرج حقيقي. ولم تكن لتعرف كيف تفسر طبيعة العبودية المأجورة في ظل النظام الرأسمالي، ولا كيف تكتشف قوانين تطور الرأسمالية، ولا كيف تجد القوة الاجتماعية القادرة على ان تصير خالقة المجتمع الجديد.
   غير أن الثورات العاصفة التي رافقت سقوط الإقطاعية، القنانة، في كل مكان من أوروبا وخاصة في فرنسا، بيّـنت بوضوح متزايد على الدوام أن النضال الطبقي هو أساس كل التطور وقوته المحركة.
   فما من انتصار لحرية سياسية تم انتزاعه من طبقة الإقطاعيين دون مقاومة يائسة. وما من بلد رأسمالي قام على أساس حر، ديمقراطي، إلى هذا الحد أو ذاك، دون قيام نضال حتى الموت بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي.
   ومن عبقرية ماركس، أنه كان أول من استخلص هذا الاستنتاج الذي ينطوي عليه التاريخ العالمي وطبقه بصورة منسجمة إلى النهاية، وهذا الاستنتاج هو مذهب النضال الطبقي.
   لقد كان الناس وسيظلون أبدا، في حقل السياسة، أناسا سذجا يخدعهم الآخرون ويخدعون أنفسهم، ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات أو تلك وراء التعابير والبيانات والوعود الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية. فإن أنصار الإصلاحات والتحسينات سيكونون أبدا عرضة لخداع المدافعين عن الأوضاع القديمة طالما لم يدركوا أن هذه الطبقات السائدة أو تؤمن وجود كل مؤسسة قديمة مهما ظهر فيها من بربرية واهتراء. فلكي نسحق مقاومة هذه الطبقات ليس ثمة سوى وسيلة واحدة هي أن نجد في نفس المجتمع الذي يحيط بنا القوى التي تستطيع – وينبغي عليها بحكم وضعها الاجتماعي – أن تغدو القوة القادرة على تكنيس القديم وخلق الجديد، و أن نثـقف هذه القوى وننظمها للنضال.
   فقط مادية ماركس الفلسفية بينت للبروليتاريا الطريق الواجب سلوكه للخروج من العبودية الفكرية التي كانت تتخبط فيها حتى ذاك جميع الطبقات المظلومة. فقط نظرية ماركس الاقتصادية أوضحت وضع البروليتاريا الحقيقي في مجمل النظام الرأسمالي.
   إن المنظمات البروليتارية المستقلة تتكاثر في العالم بأسره من أمريكا إلى اليابان ومن اسوج إلى إفريقيا الجنوبية والبروليتاريا تتعلم وتتربى في غمرة نضالها الطبقي وتتحرر من أوهام المجتمع البرجوازي وتزداد تلاحما على الدوام وتتعلم كيف تقدر نجاحاتها حق قدرها وتوطد قواها وتنمو بشكل لا مرد له. 
ف. ا. لينين، بروسفيشينيه، العدد 3، آذار/مارس 1913.
---------------
1-     كتب لينين مقال "مصادر الماركسية الثلاثة واقسامها المكونة الثلاثة" بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة ماركس.
2-     يشار هنا إلى كتاب انجلس "ضد دوهرينغ: السيد اوجين دوهرينغ يقلب العلم".
المصدر: لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 23، ص ص. 40-48.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق