8‏/9‏/2011

الفصول الثلاثة الأولى من أول مقابلة صحفية مع ماو تسي تونغ

-1-

الطفـولـة

وضعت بين يدي ماو تسي تونغ لائحة مطولة من الأسئلة ليجيب عليها بنفسه وكنت أشعر بحرج من فضولي الزائد لكن طبيعة عملي كانت تدفعني إلى ذلك. لقد تناول ماو خلال ما يزيد على اثنتي عشرة ليلة خمسة أو ستة مجموعات من الأسئلة المقدمة له بمواضيع مختلفة. و دون الإشارة إلى دوره في بعض الأحداث الواردة. وبدأت أحسّ بعدم استعداده لتقديم المزيد من التفاصيل لما كان يعيره من أهمية ضئيلة للفرد. كان يتحدث باستمرار شأنه بذلك شأن بقية القادة الحمر الذين قابلتهم عن الهيئات والتنظيمات والجيوش والقرارات الجماعية والمعارك والتكتيك.. الخ. و نادرا ما كان يطرق تجربته الشخصية في حديثه.

كنت أظن أنّ هذا الامتناع عن بحث الأدوار الشخصية وحتى عن دور الرفاق كأفراد، ناتج عن التواضع أو شكّ في أو إدراك منهم للقيمة المدفوعة ثمنا لهذه الرؤوس. لكنني أدركت فيما بعد أنّ الوضع كان ناتجا عن البوتقة التي ينصهر فيها الشيوعيون كأفراد والتي تحرّك التوجّه الجماعي. يمكن للشيوعي في بداية حياته أن يعطيك تفاصيل وافية عن حياته الشخصية إلاّ أنّه بعد مرحلة من الالتزام في صفوف الجيش الأحمر ينصهر تماما. وبدون إلحاح لا يمكن للمرء أن يستمع إلى تفاصيل عن حياته الشخصية. ويقتصر كل حديثه عن الجيش والسوفيتات والحزب ككل، يمكنه التحدث إلى مدى لا نهائي حول التواريخ والأحداث والمعارك والتحركات من وإلى آلاف الأمكنة غير المعروفة، ولكن هذه الأحداث تعكس مغزى جماعيّا فقط، وهو أنّهم لم يصنعوا التاريخ كأفراد وإنّما هنالك الجيش الأحمر المدعوم بالقوة العضوية الكاملة وبإيديولوجية كانوا يحاربون من أجل تثبيتها. كانت هذه الحقيقة ملاحظة جديرة رغم أنّها جعلت التقارير صعبة بعض الشيء.

في إحدى الجلسات وبعد استيفاء كلّ الأسئلة المطروحة تحوّل ماو إلى اللاّئحة الأخيرة المعنونة "التاريخ الشخصي"، فابتسم قليلا عندما وقع نظره على سؤال: "كم من مرّة تزوّجت ؟" فتصوّر الآخرون أنّ سؤالي كان: "كم من زوجة لديك ؟". كان متردّدا في التحدّث عن تاريخه الشخصي وأمام إصراري مبيّنا له أهميّة تسجيل هذا التاريخ لما يهمّ الناس من معرفة تاريخه الشخصي عندما يقرؤون ما يقوله عن الثّورة. كما أنّه من الضروري تصحيح بعض الإشاعات الخاطئة والمروّجة عن ماو.

ثمّ ذكّرته ببعض الإشاعات المروّجة عن موته وكيف أنّ بعض الناس يعتقدون أنّه يتكلّم الفرنسيّة بطلاقة والبعض الآخر يظنّه فلاّحا جاهلا، كما أوردت له بعض التقارير الكومنتانغيّة التي تصفه بالمسلول على حافة الموت بينما تصفه أخرى بأنّه متعصّب مجنون، وقد بدا عليه تعجّب قليل لاهتمام الناس بشخصه ووافق معي على ضرورة تصحيح هذه الإشاعات والتفت إلى النقاط التي كتبتها وقال:

"ماذا لو أهملت جميع هذه الأسئلة لأعطيك بدلا من ذلك تقريرا عامّا عن حياتي يتضمّن الإجابة على أسئلتك ؟"

فقلت فجأة: "هذا ما أريده بالضّبط".

كنّا ننحني حول منضدة مغطّاة بالأحمر تنتشر عليها أضواء الشّموع، لعدّة ليالٍ نتابع بها حديثنا. كنت أكتب إلى درجة الإجهاد التام كلّ ليلة وأوشك على النّوم، كان يجلس ووليانغ بينغ بجانبي يترجم ما يتفوّه به ماو بلهجته الجنوبيّة العذبة حيث تنقلب الألفاظ من اللّهجة الشماليّة الفظّة نوعا ما إلى الألفاظ الجنوبيّة السّهلة. فتتحوّل الـ "تشي" إلى "تحي" و "هونان" إلى "فونان" و "تشا" إلى "تسا"، والعديد من التغييرات الأخرى. كان ماو يسرد كلّ شيء من ذاكرته وكنت أكتب كلّ ما يرويه، كانت تعاد ترجمة كلّ ما أكتب وتصحيح الأخطاء التي ترد خلال الترجمة مثلما ذكرت سابقا. وأنقل إليكم نتيجة هذه المقابلات بدون أيّ تهذيب أدبي أو لغوي إلاّ فيما يخصّ بعض التصحيحات في الجمل التي يركّبها ووليانغ.

" ولدت في قرية تدعى شاو شان في هسيانغ تان هسين من ولاية هونان عام 1893، يدعى والدي ماو جن تشنغ وتدعى أمّي قبل زواجها وين تشي مي.

" كان والدي من أصل فلاحي فقير أجبرته ديونه على الالتحاق بالجيش إبّان شبابه، وظلّ جنديّا لسنوات عديدة، عاد بعدها إلى القرية التي ولدت فيها وادّخر قسما من الأموال وجمع بعضها عن طريق التجارة البسيطة ومشاريع أخرى، و استطاع إعادة شراء أرضه مجدّدا.

كانت عائلتي تمتلك 15 مو من الأرض، وكانت تعتبر عائلة فلاحيّة متوسّطة كانت تنتج ستّين تان(1) من الأرز سنويّا. كانت العائلة المكوّنة من خمسة أنفار تستهلك ما مجموعه خمسة وثلاثين تان وتوفّر ما قيمته خمسة وعشرون تان من الفائض. وبتراكم هذا الفائض استطاع والدي أن يجمع ثروة بسيطة أهّلته لشراء سبعة "مو" جديدة من الأرض، أصبحت عائلتنا بعدها تعتبر من الفلاحين الأغنياء حيث وصل الإنتاج السّنوي إلى أربعة وثمانين تان أرز.

ولمّا كنت في العاشرة من عمري كنّا نمتلك 15 مو من الأرض فقط، وكانت تتألّف عائلتي حينها من خمسة أشخاص هم والدي ووالدتي وجدّي وأخي الأصغر منّي سنّا. وبعد ان حصلنا على السبعة مو الأخرى، توفّي جدّي وأضيف لنا مولود جديد. وعلى العموم كان لا يزال لدينا فائض سنويّ مقداره 19 تان من الأرز، وعن طريقها بدأ والدي يُثري تدريجيّا.

عندما كان والدي فلاحا متوسطا كان يعمل في نقل الحبوب وبيعها ممّا ساعده على جمع بعض المال، وبعد أن أصبح فلاّحا غنيّا كرّس كلّ وقته لهذا العمل التجاري. فأحضر عاملا زراعيّا يمارس أعماله الزراعيّة طوال اليوم يضاف إليه والدتي وأشقّائي. بدأتُ العمل الزراعي منذ السّادسة من عمري. لم يكن والدي يمتلك محلاّ لبيع الحبوب بعد، وإنّما اقتصر عمله التجاري على شراء الحبوب من الفلاحين الفقراء وحملها إلى أسواق المدينة. استخدم والدي عاملا زراعيّا آخر في موسم الشّتاء وأصبحت الأفواه المعالة سبعة. كانت مظاهر التقشّف واضحة على العائلة رغم أنّها كانت تحصل على ما يكفيها.

بدأتُ دراستي في مدرسة ابتدائية محلية وأنا في الثامنة من العمر وبقيتُ حتّى الثالثة عشر. كنت استغلّ الفترة الصباحية والمسائية للعمل في المزرعة بينما أقضّي فترات النّهار الأخرى في مطالعة أوّليات الكتب الكونفوشيّة والكلاسيكيات الأربع. كان مدرّسي من ذوي الاتّجاه المتزمّت في المعاملة، فكان فظّا وقاسيا يستخدم وسائل الضّرب للطّلاب. لذا تركت المدرسة هاربا وكنت لا أتجاوز حينها العاشرة من عمري، وخشيت من العودة إلى البيت كي لا أتعرّض لعقاب والدي، فتوجّهت نحو المدينة التي اعتقدت أنّها تقع على مقربة من الوادي، بقيت هائما على وجهي مدّة ثلاثة أيام، قبل أن يكتشفني والدي حيث علمت بعدها أنّني كنت أسير بشكل دائري ولم أتجاوز في مسيرتي الطويلة هذه مسافة أبعد من ثماني "لي" عن البيت.

بدأت أحسّ بتحسّن في المعاملة داخل البيت بعد عودتي بشكل لم أتوقّعه وازداد عطف والدي نحوي كما بدأ مدرّسي يميل إلى اللّيونة، ونتج ذلك عن معارضتي، "كان إضرابا ناجحا".

لقد شاء والدي أن أتولّى الإشراف على الحسابات الماليّة للعائلة، حالما نلت القدرة على صفّ بعض الأحرف وكلّفني بمتابعة العمل في حساباته كلّ مساء. كان والدي من أرباب العمل القساة، يكره أن يراني متوقّفا، وإذا لم يكن هناك عمل في الحسابات كان يبحث لي عن عمل في المزرعة، كان عصيّ المزاج ويضربني وإخوتي بين الفينة والأخرى. لم يكن يعطينا شيئا من الأموال مهما كانت الظروف و كنّا نعتمد في معيشتنا على أكثر الطّعام تقشفا، كان يتعطّف على عمّاله كلّ شهر بإعطائهم كميّة بسيطة من البيض مع الأرز وبدون لحم، أمّا بالنسبة لنا فلم نكن نحصل لا على البيض ولا على اللّحم.

كانت والدتي امرأة طيّبة، كريمة وعطوفة، تهزّها مشاعر الفقراء فتتعطّف عليهم وتعطيهم بعض الأرز عندما يسألون في مواسم القحط، غير أنها لم تكن تملك القدرة على ذلك بوجود والدي، فهو يكره إلى حدّ بعيد الاستعطاف وكانت تدور مشاكل كثيرة في البيت وخلافات حول هذا الموضوع.

كان بيتنا يُقسم إلى حزبين، على رأس أحدهما والدي ويمثّل السّلطة الحاكمة في العائلة، أمّا المعارضة فتشكّلت منّي ومن والدتي ومن أخي ومن العامل أحيانا. كان هناك خلاف في "الجبهة المتّحدة" للمعارضة. كانت والدتي ترى ضرورة الهجوم غير المباشر وتنتقد بشدّة أي مكاشفة مباشرة أو أي محاولات للتمرد العلني ضدّ السلطة الحاكمة. وتدّعي أنّ ذلك لا يتماشى مع العوائد الصينية.

غير أنني في الثالثة عشر تحسّستُ طريقة خاصة في النقاش مع والدي معتمدا على مواد الكتب الكلاسيكية، كانت اتهامات والدي المركّزة، اعتباري كسولا وغير مخلص للعائلة، وبالمقابل كنت أنقل له مقاطع من الكتب الكلاسيكية تقول أنّ على الكبار أن يكونوا عطوفين ومحبين، وأمام اتهاماته لي بأنني كسول، كنت أردّ بأنّ على الكبار مهامّ القيام بأعمال أكثر من الذين يصغرونهم سنّا، وبأنّ لوالدي من العمر ثلاثة أضعاف عمري ولذا فإنّ عليه القيام بأعمال أكثر منّي، وعليه كنت أبلغه أنني عندما سأكون في سنّه سأكون أكثر نشاطا منه.

تزايد تكديس والدي للثروة إلى الحدّ الذي اعتبرت ثروة كبيرة في القرية. لم يقم بشراء المزيد من الأرض إلاّ أنّه كان يقوم بشراء الرّهونات على أراضي الغير من المعوزين. ووصل رأسماله المدّخر إلى ألفي أو ثلاثة آلاف دولار.

ازداد استيائي العام من الجو الذي تعيشه العائلة، كان الصراع الجدلي يتطوّر فيها باستمرار(2)، لا زلت أذكر إحدى هذه الحوادث وبدلالة خاصّة. كنت حينها لا أزال في الثالثة عشر من عمري وقد دعا والدي الكثير من ضيوفه إلى المنزل، وأثناء وجودهم حدثت مشادّة بيننا. فحقرني والدي كثيرا أمامهم وأطلق نعوتاته لي عليّ، أغضبني ذلك إلى الحدّ الذي بادرت بشتمه وترك المنزل، خرجت أمّي تحاول إقناعي بالعودة، كما تبعني والدي يشتمني وهو يطالبني بالعودة، وصلت إلى حافة نهر وهددته بإلقاء نفسي فيه إذا اقترب منّي أكثر. في هذا الظرف بالذات بدأت مطالبات ومطالبات مضادّة لإنهاء الحرب الأهلية، أصرّ والدي على أن أعتذر وأركع أمامه كعلامة على الرّضوخ، وافقت على الركوع على ركبة واحدة شريطة أن يعد بألاّ يضربني. وهكذا توقفت الحرب ومنذ هذه الحادثة تعلمت أسلوب التمرد في الدفاع عن حقوقي، كان أمامها يتراجع والدي وعلمت أن رضوخي كان يدفعه إلى المزيد من الشتم والضرب لي.

وبعد اهتمام أكثر في الموضوع شعرت أنّ قساوة والدي كانت متغلبة عليّ، وأحسست بكراهية تجاهه وأقمنا جبهة متحدة متراصة ضدّه وقد ترك ذلك أثرا جيّدا عليّ في الوقت نفسه، حيث أصبحت أكثر نشاطا واندفاعا في عملي و تعلمت الحفاظ على الحسابات بدقة حتى لا أترك له مجالا لانتقادي.

كان تعلّم والدي لمدة سنتين في المدرسة يؤهله للمحافظة على دقة حساباته، أمّا والدتي فكانت أميّة، كان كلاهما من أصل فلاحي أمّا أنا فكنت "مثقف البيت" إذ أعرف الكلاسيكيات رغم كراهيتي لها، وكانت تعجبني الكتب الرومانسية للصين القديمة وبشكل خاص الكتب التي تبحث حول تاريخ التمرّدات. وتوجّهت لمطالعة هذه الكتب منذ صغري فقرأت: يوفني تشوان (تشين تشنغ تشوان)، وشوي هوتشوان، وفان تانغ، وسان كوو، وهسي يوتشي، والتي كان يعتبرها مدرّسي العجوز كتبا شرّيرة وممنوعة قانونيا. كنت أقرأها داخل المدرسة وأغطّيها بكتبي الكلاسيكية عند مرور المدرّس على مقربة مني. وهذا ما كان يفعله كثير من زملائي أيضا. لقد حفظنا مجموعات من هذه القصص عن ظهر قلب، وكنّا نناقشها مرارا، وقد زدنا معرفة بها عن الرجال المسنين في القرية وكنّا نتبادل الحديث حولها معهم. وتقديري أنّني تأثّرت كثيرا بهذه القصص التي قرأتها في الصّغر.

وأخيرا تركت المدرسة الابتدائية وكان عمري آنذاك ثلاثة عشر عاما وبدأت العمل الشاق في المزرعة أساعد العامل وبجهد رجل كامل أثناء النهار، وأقوم بالمهمات الحسابية ليلا. ومع ذلك فقد نجحت في متابعة مطالعاتي التهمُ كلّ ما يقع في يدي من الكتب غير الكلاسيكية. زاد ذلك استياء والدي حيث أرادني أن أتفوّق في الكلاسيكيات وشعر بحاجة لذلك بعد أن خسر دعوى في المحكمة نتيجة استخدام خصمه أحاجيج معتمدا بها على الكلاسيكيات. كنت أسدل ستائر نوافذ غرفتي في الليل حتى لا ينفذ النور منها إلى أبصار والدي في الساعات المتأخّرة من الليل، وبهذه الطريقة قرأت كتاب: "كلمات تحذير" للكاتب شين شيه وي ين وأعجبت به كثيرا. كان المؤلفون من المثقفين الإصلاحيين والذين يفسّرون ضعف الصين بأنّه ناتج عن عدم تطبيقها للحضارة الغربية (السكك الحديدية والتلفون، التلغراف، السفن التجارية) وبدأوا يطالبون بتطبيقها في الصين.

كان والدي يعتبر هذه الكتب مضيعة للوقت ويريد مني قراءة مواد علمية مثل الكلاسيكيات التي تساعده في كسب دعوات المحاكم. تابعت قراءتي للقصص القديمة حول الأدب الصيني. واكتشفت أنّ هذه الكتب ينقصها بشكل غريب دور الفلاحين الذين يزرعون الأرض. كانت شخصيات هذه الكتب من المحاربين والموظفين والمثقفين، لم يكن هناك دور بطولي واحد لفلاح. وبدأت تدور في ذهني تساؤلات عن ذلك ولمدة سنين، بعدها استطعت أن أحلّل مضمون هذه الكتب، كانوا يمجّدون المسلّحين وحكّام الشعب الذين لا يعملون في الأرض لأنّهم يملكون السيطرة عليها وبالتالي يستخدمون الفلاحين فيها.

كانت والدتي تعبد بوذا بحرارة بينما كان والدي في أيّامه الأولى وفي منتصف عمره متشككا. وعلّمتنا والدتي التدين وكنّا جميعا نشعر بوخز لعدم إيمان والدي، ولمّا كنت في التاسعة من عمري كنت أبحث مع والدتي جدّيا قضيّة إيمان والدي، وقمنا بعدّة محاولات لإعادته إلى حظيرة الدين، ولكن دون جدوى، كان يواجهنا بالشتيمة، وخوفا من هجماته كنّا نتراجع للبدء في خطط جديدة، إلاّ أنّه كان يرفض التعامل مع الآلهة بأيّ شكل من الأشكال.

بدأت أتأثّّر تدريجيّا بمطالعاتي، وبدأت خيوط التشكك في الدين تدريجيا لديّ الأمر الذي أزعج والدتي، فأنّبتني مرارا على إهمالي وعدم اكتراثي لمتطلبات الإيمان. غير أنّ والدي لم يبدِ أيّ تعليق حول هذه المسألة. وفي يوم من الأيام بينما كان والدي يسير في طريقه اعترضه نمر، وقد فوجئ والدي بهروب النمر، غير أنّه ازداد تساؤلا في الأمر وبدأ يفكّر بعدها بهذه المعجزة، وحول ما إذا كان أساء إلى الآلهة، ولوحظ بعدها زيادة احترامه للبوذية، وبدأ يحرق البخور في معابدها، إلاّ أنّ ابتعادي المتزايد عن الدين لم يكن يقلق والدي الذي كان يصلّي للآلهة كلّما واجهته المصاعب.

أثار كتاب "كلمات التحذير" رغبتي للمطالعة ومتابعة الدراسة، كما كنت أشعر أيضا بالقرف من عملي في المزرعة. إلاّ أنّ والدي عارضني، تشاجرنا حول هذا الموضوع. واضطررت أخيرا إلى ترك المنزل وذهبت إلى بيت أحد زملائي من طلاب القانون العاطلين عن العمل، وبدأت أطالع لمدّة نصف سنة، وبعدها تابعت دراسة المزيد من الكتب الكلاسيكية على يد بحّاثة صينيّ قديم وقرأت الكثير من المقالات وبعض الكتب الحديثة.

في هذه الفترة جاءت حادثة لتترك أثرها على حياتي كلها، لاحظنا نحن الطلبة، خارج المدرسة الصينية الصغيرة التي كنّا ندرس فيها جموعا من بائعي الفاصوليا يعودون من تشانغشا. وعلمنا أنّ السبب في مغادرتهم هو حصول تمرّد عظيم في المدينة.

اتسمت تلك السنة بمجاعة قاسية وكان الآلاف في تشانغشا يفتقرون إلى الطعام. فأرسل الجائعون بوفد إلى الحاكم يطالبونه بمساعدتهم إلاّ أنّه أجابهم بكلّ احتقار: "لماذا لا تملكون الطعام ؟ هناك الكثير منه في المدينة، فأنا دائما مكتف''. وعندما بلغ الناس ما قاله الحاكم، استشاطوا غضبا فأقاموا الاجتماعات العامة ونظموا مظاهرات صاخبة هاجموا فيها الحراس ومزّقوا العلم الذي يرمز إلى السلطة وطردوا حاكم الولاية من المدينة، وعلى إثر ذلك حضر مفوّض الشؤون الداخلية ويدعى تشانغ على صهوة حصانه وأبلغهم بأنّ الحاكم سيتّخذ الإجراءات اللازمة لدفع المجاعة عنهم. كان تشانغ مخلصا في وعوده ولكن الإمبرامور كان يبغضه ويتهمه بإقامة العلاقات المتينة مع الرعاع. فتمّ عزله فيما بعد. وصل حاكم جديد إلى الولاية وأمر باعتقال زعماء التمرد وأعدم العديد منهم كما علّق رؤوسهم على أعواد في المدينة كإنذار لأيّ متمرّد في المستقبل.

بدأ نقاش مستمر في المدرسة متناولا هذا الحادث لمدة أيام وقد ترك أثرا عميقا في نفسي، كان أكثرية الطلاب متعاطفين مع المتمردين ولكنهم يقفون في زاوية المتفرّج، لم يدركوا ارتباط ذلك بحياتهم وشدّهم إلى ذلك كونه حادثا مهيجا، ولكنني لم أستطع تناسي ذلك بتاتا وشعرت أنّ بين المتمردين أناس تشابه أوضاعهم أوضاع عائلتي ورفضت بشدة ما تلقّوا من إجحاف في المعاملة.

بعدها بقليل وقعت مشادة في شاو شان بين أعضاء الكي لاو هوي (وهي منظمة سريّة) وبين إقطاعي محلي. حيث أقام ضدّهم قضية في المحكمة واستطاع بوسائل الرشوة أن يحصل على قرار لصالحه. وهُزم أعضاء الكي لاو هوي إلاّ أنّهم رفضوا الرضوخ وبدأوا تمرّدا ضدّ الإقطاعي والحكومة والتجأوا إلى جبل مجاور يدعى ليوشان، وأقاموا حصنهم فيه. فأرسلت قوات ضدهم وأشاع الإقطاعي قصّة ذبح طفل عنهم ليرفعوا راية التمرّد. كان زعيم المتمردين يدعى بانغ وهو عامل في المطحنة، غير أنّ هذا التمرّد أخمد نهائيا واضطرّ بانغ على الإثر للهرب ولكنه وقع في الأسر ونُفّذ فيه حكم الإعدام. كان الطلاب يرون في بانغ بطلا لأنهم يتعاطفون جميعا مع التمرد.

في السنة اللاحقة استنفدت محاصيل أرز الشتاء قبل أن يُثمر محصول الأرز الجديد، الأمر الذي أدّى إلى نقص الأكل في مقاطعتنا. بدأ الفقراء يطالبون بمساعدة من المزارعين الأغنياء، كما بدأوا مع ذلك حركة تسمّى "كل الأرز دون أن تدفع" كان والدي آنذاك تاجر أرز وكان يصدّر كمية كبيرة من الحبوب إلى المدينة بالرغم من النقص الذي تعاني منه المقاطعة. فاستولى القرويون الفقراء على إحدى قوافله حيث اشتدّ غضبه، إلاّ أنّني لم أتعاطف معه وفي الوقت نفسه اعتبرت أسلوب الفلاحين غير صحيح.

تأثرت إلى حد بعيد بأحد المدرسين التقدميين، الذي كان يعمل في إحدى المدارس الابتدائية المحلية. كان تقدميا لأنه على خلاف مع البوذية ويريد التخلص من الآلهة، وكان يحث الناس على تحويل معابدهم إلى مدارس. كان شخصية مرموقة وكنت معجبا به ومتفقا معه في الرأي.

تركت هذه الأحداث المتلاحقة آثارا حاسمة في دماغي الصغير والذي يحسّ بالتمرّد. في هذه الفترة أيضا بدأت أعي بعض القضايا السياسية خاصة بعد أن اطّلعت على بيان يعلن عن اقتطاع أجزاء من الصين، واذكر تماما أنّ البيان بدأ بالعبارة التالية "يا للعار! ستستسلم الصين".

كان البيان يتحدث عن احتلال اليابان لكوريا وفرموزا وعن فقدان الهند الصينية وبورما ومناطق أخرى لسيادتها. بعد قراءتي لهذا البيان شعرت بغموض يكتنف مستقبل بلدي وبدأت تتزايد قناعتي بأنّ واجب تخليص الصين يقع على عاتق الشعب بأكمله.

قرّر والدي أن يضعني عاملا في محل لبيع الأرز في هسيانغ تان كانت له علاقات تجارية به. لم أرفض هذا القرار في بداية الأمر ظانا أنّها ستكون مهنة مسلية. غير أنه في نفس الوقت سمعت عن افتتاح مدرسة حديثة وقررت الالتحاق بها برغم اعتراضات والدي. كانت المدرسة في هسيانغ هسيانغ حيث تقيم عائلة والدتي. وكان أحد أقربائي طالبا فيها، وحدثني عن الظروف الحديثة والمتغيرة في العلم الحديث، كان نظام المدرسة لا يعير اهتماما كبيرا للدراسات الكلاسيكية، ويركز على العلم الحديث الغربي، كما كانت الوسائل التعليمية متقدمة أيضا.

توجهت إلى المدرسة برفقة قريبي وثبتُّ اسمي كطالب فيها، ادّعيت بأنني من أبناء هسيانغ هسيانغ عندما علمت بأن المدرسة مفتوحة لتدريس المواطنين المحليين فقط، ولكنني عدت فأعلنت عن هويتي الحقيقية عندما اكتشفت بأنّ المدرسة مفتوحة للجميع. دفعت 1400 قطعة نقد نحاسية مقابل خمسة أشهر من الدراسة بما في ذلك ما يلزم من أكل ومبيت. وقد وافق والدي أخيرا على دخولي بعد أن أقنعه أصدقاؤه بأنّ هذا العلم المتقدم يزيد من قدرتي العلمية. كانت هذه أوّل مرّة أبتعد فيها عن المنزل مسافة الخمسين "لي". وكنت حينها في السادسة عشر من العمر.

كنت أتلقّى في هذه المدرسة الجديدة دروسا عن العلوم الطبيعية ومواضيع جديدة حول التعليم الغربي. وأتذكّر أيضا أنّ أحد المدرّسين كان طالبا عائدا من اليابان، وكان يضع على رأسه شعرا مستعارا بحيث كان من السهل اكتشاف زيف شعره. وكان يسخر منه الجميع ويلقبونه "الشيطان الأجنبي المزيف".

لم أر في حياتي هذا القدر من الأطفال الذين يرتدون الملابس الثمينة، كان معظمهم من أبناء الإقطاعيين، إذ لا يستطيع أبناء الفلاحين الالتحاق بهذه المدرسة نظرا لتكاليفها الباهظة. كنت أكثرهم فقرا في ملبسي وكنت أملك بدلة حسنة واحدة. كان المدرسون هم الذين يملكون المعاطف فقط. كما لم يكن يرتدي الملابس ذات الطراز الأجنبي إلاّ الشياطين الأجانب. كان يبغضني الكثير من الطلاب الأغنياء لأنّ ملابسي كانت بسيطة ومهلهلة، ولكنني استطعت أن أكسب بعض الأصدقاء من بينهم. وكان منهم صديقان حميمان يعمل أحدهما كاتبا في الاتحاد السوفياتي اليوم.

كان ممّا يزيد كرههم لي أنني لست من مواطني هسيانغ هسيانغ، كان مهما جدا أن يكون المرء مواطنا من هسيانغ أو من إحدى مقاطعاتها. إذ يحصل هناك قتال مستمرّ بين المقاطعات العليا والوسطى والسفلى، حول قضايا وخلافات الحدود.

وكانت ترفض كل مقاطعة التعايش بسلام مع الأخرى، أمّا أنا فقد كنت أتّخذ موقفا محايدا في هذه الحرب نظرا لأنني لم أكن مواطنا في هسيانغ. لذا كرهتني الفرق الثلاث المتنازعة، وكانت تنعكس عليّ بانقباض نفسيّ شديد.

كنت متقدما في المدرسة بشكل مستمر الأمر الذي أحبني على إثره معظم المدرسين خاصة أولئك الذين كانوا يعلموننا الكلاسيكيات، لما كنت أقدّمه من إنشاء جيّد بالأسلوب الكلاسيكي، رغم عدم اهتمامي بها. كنت مشدودا في قراءة كتابين أرسلهما لي قريبي يتحدثان عن حركة الإصلاح في كانغ يووي. كان أحدهما يحمل اسم "صحيفة الشعب الجديد"، "هسين مين تشونغ باو" وكان محرر هذه الصحيفة ليانغ تشي تشاو(3). قرأتها مرارا إلى أن حفظتها عن ظهر قلب. كنت أقدس كانغ يووي وليانغ تشي تشاو كما كنت ممتنّا لقريبي الذي اعتبرته حينها تقدميا، غير أنّه ارتدّ وأصبح في فترة لاحقة من الثورة المضادّة. وكفرد من الأسياد انضمّ إلى جانب الرجعيين أثناء الثورة الكبرى عام 1925-1927.

كان العديد من الطلاب يبغضون "الشيطان الأجنبي المزيف" ذا الشعر المستعار إلاّ أنّني كنت أحبّ الاستماع لما يرويه عن اليابان، كان يعلّمنا اللغة الأنكليزية والموسيقى، وكانت إحدى أغنياته يابانيّة تسمّى "المعركة على النهر الأصفر" لا زلت أذكر بعض كلماتها الجذابة:

على ضفاف النهر الأصفر

صباح مساء

وقع أقدام الشباب تغني للسلاح

وأغاريد البلابل في الفضاء

صباح مساء

والحقول الخضر في زهو الطبيعة

صباح مساء

تزهر عيدان الرمان

وتزدان كل صباح

وتلبس أغصان الصفصاف حلتها الخضراء

صباح مساء

وأنامل الربيع تعلق صورة جديدة

كل صباح

فقد ولّى الشّتـــــاء

في ذلك الوقت أحسست بجمال اليابان ولمست زهوها وقوّتها التي تتضح في هذه الأغنية حول انتصارها على روسيا(4). ولم أكن حينها أعرف أنّ هناك يابانًا بربريّة كما أعرفها اليوم.

علّمني "الشيطان الأجنبي المزيّف" كلّ ذلك كما أنه كان ينقل الأخبار إذ علمت بموت الإمبراطور تزوهسي والإمبراطورة دواجر، ولم أكن حينها معاديا للمُلكيّة بالرغم من أنّ الإمبراطور الجديد هسوان تونغ (بوبي الحالي) كان قد بدأ حكمه منذ سنتين. كنت أعتبر الإمبراطور ومعظم موظفيه رجالا أمناء وطيبين وأذكياء كنت أشعر أنّهم بحاجة لإصلاحات كانغ يووي. كنت مأخوذا بالروايات عن حكّام الصين القديمة: "ياو شون، شين شيه هوانغ تين وهان ووتي". وقرأت كتبا عديدة عنهم. كما اطّلعت على قليل من التاريخ الأجنبي في تلك الفترة وعلى الجغرافيا. سمعت عن أمريكا لأول مرّة في مقال قرأته عن الثورة الأمريكية يحوي الجملة التالية: "بعد ثماني سنوات من الحرب الشاقة انتصر واشنطن وأسس وطنه"، كان هذا المقال من كتاب يدعى "أبطال عظام في العالم". كان من ضمنه أيضا أحاديث عن نابوليون وكاترين إمبراطورة روسيا وبيتر العظيم وجلادستون وروسو ومونتسكيو ولينكولن".

-2-

أيّـام فـي تشـانغشـا

استرسل ماو تسي تونغ قائلا:

" بدأت أتشوّق للذهاب إلى تشانغشا، المدينة العظيمة عاصمة الولاية التي تبعد 120 لي عن بيتي. يقال انّ هذه المدينة كبيرة جدّا وتحوي أعدادا متزاحمة من البشر، كما أنّ فيها العديد من المدارس والمراكز الحكوميّة. كانت بالنسبة لي مكانا رائعا أودّ الذّهاب إليه و كنت أرغب حينها في دخول المدرسة المتوسطة التابعة لأهالي هسيانغ هسيانغ. طلبت من أحد المدرسين في المدرسة الابتدائية أن أذهب برفقته إلى هناك. تحركت إلى تشانغشا وقد علاني شعور بالاضطراب والرهبة قبل دخولي مدرستها العظيمة. وقُبلت طالبا في تلك المدرسة بدون مشاقّ. كانت الأحوال السياسيّة آنذاك تسير أحداثها بسرعة متلاحقة، ولم أمكث هناك أكثر من نصف عام.

بدأت أطالع صحيفتي الأولى في تشانغشا وتدعى "قوّة الشعب" (مين لي باو) وهي صحيفة وطنية ثورية كانت تتحدث عن تمرد كانتون ضدّ أسرة المانتشو الحاكمة وعن إعدام الأبطال الاثنين والسبعين، كان التمردّ إذّاك بقيادة الهوناني المدعو وانغ هسينغ. تأثّرت بهذه القصّة ووجدت الـ"مين لي باو" مليئة بالمواد المثيرة للحسّ الوطني. كان يشرف على تحريرها يويوجين والذي أصبح فيما بعد أحد القادة العظماء في صفوف الكومنتانغ.

سمعت عن صن يات صن في تلك الآونة وعن برنامج التونغ مينغ هوي. كان البلد على أعتاب الثورة الأولى، فاندفعت حينها وكتبت مقالا علّقته على حائط المدرسة. كان ذلك أوّل تعبير عن آرائي السياسيّة والتي كانت غامضة. لم أكن قد فقدت إعجابي بكانغ يووي وليانغ تشي تشاو بعد، ولم استطع التمييز بينهما. وعليه طالبت في مقالي بضرورة استدعاء صن يات صن من اليابان ليكون رئيسا لحكومة جديدة يشارك فيها كانغ يووي كرئيس للوزراء وليانغ تشي تشاو وزيرا للخارجية.

بدأت الحركة العامة المناهضة لكلّ ما هو أجنبي تنمو مع بناء خطّ السكة الحديدي (سزشوان – هانكو) وبدأت مطاليب شعبية عامة تدعو لانتخاب برلمان، وكردّ على ذلك أصدر الإمبراطور مرسوما يعلن فيه تعيين مجلس للشورى فقط، ممّا زاد حماس الطلبة في مدرستي وتظاهروا معبّرين عن مشاعرهم المعادية للمانتشو بتمرّد اتّضح في قصّهم لضفائر الشعر. وبعد أن اتّفقنا جميعا على هذه الخطوة لاحظت أنّني وصديقا آخر فقط نفّذنا ذلك، أمّا الباقون فقد تراجعوا، الأمر الذي دفعنا إلى مهاجمتهم سرّا وأجبرناهم على قصّ ضفائرهم حتّى وقع أكثر من عشرة منهم ضحايا لمقصّاتنا. وهكذا خلال فترة وجيزة من الزمن انتقلت من مجرد الاستهزاء بالضفيرة المزيفة "للشيطان الأجنبي المزيف" إلى المطالبة بإنهاء الضفائر بشكل عام. أدركت إلى أية درجة تستطيع فكرة سياسيّة أن تغيّر من مواقف.

وقعت مشادة كلامية بيني وبين أحد طلاب القانون حول مسألة ضفائر الشعر وقدّم كلّ منّا حججه وأدلته للدفاع عن وجهة نظره. كان يرى طالب القانون أنّ الجسم والجلد والشعر والأظافر هي وراثية ويجب أن تبقى وأورد نصوصا من الكتب الكلاسيكية لدعم وجهة نظره. غير أنني بالمقابل تمكنت من إسكاته تماما بالتدليل على وجهة نظري بأنّ قصّ الضفائر يعتبر موقفا سياسيا مناهضا للمانتشو. وأيّدني العديد من الطلاب الحاضرين.

بعد تمرّد ووهان الذي قاده لي يوان هونغ أعلنت الأحكام العرفية في هونان وبدأت الحركة السياسية تتطور بسرعة، وفي أحد الأيام جاءنا أحد الثوريين وألقى محاضرة في المدرسة بإذن من مديرها استطاعت أن تحرّك مشاعر الطلبة حيث قام سبعة أو ثمانية من الطلاب في الاجتماع وهتفوا بتأييد أقواله ورفضهم العنيف للمانتشو، والمطالبة بإقامة الجمهورية. كان الجميع ينصت باهتمام بالغ، ولم يكن يسمع غير صوت الخطيب الثوري وهو أحد موظفي لي وانغ هونغ.

بعد خمسة أيام من سماعي لهذا الخطاب قررت الالتحاق بجيش لي يوان هونغ الثوري، وعزمت على الذهاب إلى هانكو برفقة العديد من أصدقائي. وجمعنا مبلغا من زملائنا. وعندما سمعنا بأنّ شوارع هانكو شديدة الوحل وإنّه لا بدّ من أحذية واقية من المطر، توجهت إلى صديق لي في الجيش كان يسكن خارج المدينة غير أنّ الحراس أوقفوني دون ذلك لأنّ المنطقة أصبحت شديدة الحيوية وقد وزّعت الذخيرة على الجنود لأوّل مرّة، وكانوا يقومون بدوريات في الشوارع.

اقترب المتمردون من مشارف المدينة عن طريق الخط الحديدي هانكو – كانتون وبدأ القتال حين وقعت معركة عنيفة خارج أسوار تشانغشا، ورافقها في نفس الوقت تمرّد داخل المدينة واحتل العمّال الصينيون أبواب المدينة وفتحوها. أقفلت عائدا إلى المدينة عن طريق أحد هذه الأبواب وجلست في مكان مرتفع أراقب سير المعركة وأبصرت في نهايتها راية الهان ترتفع فوق الساريات. كانت راية بيضاء وفي وسطها كلمة "هان". عدت إلى المدرسة لكنني وجدتها تحت الحراسة العسكرية وشكلت في اليوم التالي حكومة عسكرية وتولّى فيها اثنان من الكي لاو هوي مسؤولية الإدارة العسكرية وهما تشاو تافنغ وتشين نسوهسينغ.

بدأت الحكومة الجديدة في ممارسة أعمالها داخل البنايات التي كانت تتبع لمجلس الشورى للولاية والذي يرأسه تان ين كاي، حيث طُرد وتمّ حلّ المجلس. وجد بعض الثوريين بين وثائق المانتشو نسخا عديدة من المطالب التي تتوسل لافتتاح البرلمان. كانت إحداها مكتوبة بدم هسوتيه ليه والذي أصبح فيما بعد مفوض التعليم لدى الحكومة الشعبية، وكان قد قطع طرف إصبعه كدليل على إخلاصه وتصميمه، وكتب عريضته هذه مبتدئا بها: "متوسّلا لافتتاح البرلمان فإنّني أقطع إصبعي...".

لم يستطع الحاكم العسكري ومساعده أن يستمرّا طويلا. كانا يحملان نوايا ثورية إلاّ أنهما كانا من فقراء الفلاحين ويطمحان لتمثيل مصالح المظلومين بصدق، الأمر الذي أثار استياء كبار التجار الإقطاعيين، وما هي إلاّ أيّام قليلة حتّى رأيت جثّتيهما ممدّدة في الشوارع وأنا ذاهب لزيارة أحد أصدقائي. لقد نظّم تان ين كاي كممثل لإقطاعيي وعسكريي هونان تمردا ضدّهم.

انضمّ العديد من الطلاب إلى الجيش بحيث أصبح لهم وجود فعليّ فيه وكان من بينهم تانغ تشينغ تشيه(5). لم أكن أميل لجيش الطلاب وشعرت بغموض معناه، وقررت

الانضمام للجيش النظامي لدفع الثورة ومساندتها. رفض الإمبراطور تشينغ التنازل عن الحكم واستمرت فترة النضال.

كنت أتقاضى راتبا مقداره سبعة دولارات في الشهر – وهو يزيد على ما أتقاضاه حاليا في الجيش الأحمر – كنت أنفق دولارين في الشهر للأكل، وكنت أشتري الماء أيضا حيث أنّ الجنود هم المكلّفون بإحضار الماء من خارج المدينة، وإنّني باعتباري طالبا لم أتنازل لحمل الماء. أمّا ما تبقّى من راتبي فقد كنت أشتري به الصّحف والمجلات حيث أصبحت من أنشط قرّائها. كانت الجريدة اليومية هسيانغ كيانغ إحدى الصّحف الملتزمة بالثورة وتناقش قضايا الاشتراكية وسمعت بهذا المصطلح لأول مرّة من صفحات هذه الجريدة. بدأت أناقش الاشتراكية أو بالأحرى الإصلاح الاجتماعي مع الطلاب والجنود وقرأت بيانات كتبها كيانغ كانغ هو حول الاشتراكية ومبادئها. وكتبت باندفاع إلى عدد من زملائي في الدراسة حول هذا الموضوع ولم أجد تجاوبا إلاّ من واحد فقط.

كنت على علاقة طيّبة مع اثنين من وحدتي أحدهما كان عامل منجم في هونان والآخر حدّاد أمّا الباقون فكنت أحسّ أنّهم تافهين وعلمت أنّ أحدهم لصّا. أقنعت طالبين آخرين بالانضمام للجيش وأصبحت صديقا لقائد الكتيبة ويألفني معظم الجنود، كنت قادرا على الكتابة تبعا لمطالعاتي المستمرة حيث كانوا يقيمون وزنا "لثقافتي الواسعة" إذ كنت أساعدهم في كتابة رسائلهم وبعض الأمور الأخرى.

لم تتضح بعد نتيجة الثورة إذ رفض التشينغ تسليم السلطة، وبدأ الخلاف يدبّ بين الكومنتانغ حول الزعامة. كان يعرف أنّ المزيد من الحرب في هونان أمر لا بدّ منه. فأعدّت قطاعات كبيرة من الجيش لمحاربة المانتشو ويو آن شيه كاي(6) ومن بين هذه القطاعات العسكريّة كان الجيش الهوناني. وبينما كان التحضير لدى الهونانيين على قدم وساق حصل اتّفاق بين صن يات صن ويوآن شيه كاي وأوقفت الحرب وهي على أبوابها واتّحد الشمال والجنوب وحُلّت حكومة نانكينغ. عندئذ استقلت من الجيش معتقدا أنّ الثورة قد انتهت وقرّرت العودة إلى كتبي بعد أن قضّيت نصف سنة في الجندية.

بدأت أتابع الإعلانات في الصحف، كثير من المدارس افتتحت في تلك الفترة؛ حيث يعلنون عن ذلك في الصحف لإعلام الطلبة. لم أكن أدرك ماذا أريد وقد لفت نظري إعلان عن افتتاح مدرسة للشرطة، فسجّلت للدخول فيها إلاّ أنّني قبل أن أقدم فحص الدخول قرأت إعلانا عن مدرسة لصناعة الصابون إذ أنّها لا تلزم بدفع رسوم وتؤمّن المعيشة وتدفع راتبا رمزيّا. كان هذا الإعلان مشجعا ويتحدّث عن الإفادات الصناعية الكبرى للصابون وكيف أنّها ستدرّ أرباحا كبيرة للناس والبلد. عندها غيّرت رأيي و قرّرت أن أصبح صانع صابون ودفعت دولارا واحدا كرسم للتسجيل.

في نفس الوقت التحق أحد أصدقائي بمدرسة للقانون وحثّني على الدخول معه كما أنني قرأت إعلانا مغريا عن مدرسة القانون هذه والتي كانت تعدُ بالكثير من الأمور الجذّابة. فقد تعهدت المدرسة بأن تعلّم طلاّبها كلّ موادّ القانون خلال ثلاث سنوات وتعهدت لهم بوظائف كبيرة بعد تخرّجهم مباشرة. كما أنّ صديقي استمرّ في مدحه لهذه المدرسة إلى أن كتبت لعائلتي ذاكرا لهم جميع الوعود الواردة في الإعلان وطالبا منهم رسوم التعليم، صوّرت لهم مستقبلي كمدّعي عام أو موظّف كبير، دفعت دولار التسجيل في مدرسة القانون بانتظار الرد من الأهل.

غير أنّ القدر تدخّل مرّة أخرى بشكل إعلان عن مدرسة تجارية وبنصيحة من أحد أصدقائي بأنّ البلد في حالة حرب اقتصادية وإنّها بحاجة ماسّة إلى اقتصاديين أكفّاء لهم قدرة على بناء اقتصاد البلد، اقتنعت برأيه ودفعت دولارا آخر للتسجيل في هذه المدرسة التجارية المتوسطة، والتحقت بها بعد موافقتها على قبولي. غير أنني بقيت أتابع الإعلانات وقرأت أحدها يتحدث عن ميزات مدرسة تجارية عليا تشرف على إدارتها الحكومة وتقدم برنامجا واسعا، وتحوي نخبة من المدرسين الأكفاء، ورأيت أنه من المفيد لي أن أصبح خبيرا تجاريا لدى هذه المدرسة، فدفعت دولارا جديدا وسجلت بها، ثمّ كتبت لوالدي أخبره عن قراري الأخير. كان وقع ذلك حسنا جدّا عليه وتحسّس مباشرة فوائد الخبرة التجارية ثمّ دخلت هذه المدرسة وبقيت فيها شهرا واحدا.

لاحظت أنني أعاني من مشكلة في المدرسة الجديدة وهي معرفتي المحدودة جدّا للّغة الانكليزية التي لم تتعدّ معرفة الأحرف الهجائية، بينما كانت تعطَى معظم المواد باللغة الانكليزية، زد على ذلك أنّ المدرسة لم تكن تؤمّن مدرّسا لهذه اللّغة. فانسحبت منها مع نهاية الشهر الأول بشعور الاستياء وعدت أتابع الإعلانات من جديد.

بدأت مغامرتي الدراسية الجديدة مع مدرسة الولاية المتوسطة الأولى، سجلت فيها ودفعت دولارا وتقدمت لامتحان الدخول، وقد فزت على رأس لائحة المرشحين. كانت مدرسة ضخمة تضمّ عددا كبيرا من الطلاب وخرّجت أعدادا كثيرة، كان هنالك مدرس صينيّ أُعجب بميولي الأدبية وأعارني كتابا يُدعى "عرض للتفسيرات الإمبراطورية" ونقدا له قدّمه له تشينغ لونغ.

في هذه الفترة حدث انفجار هائل في أحد مخازن الدولة في تشانغشا نجم عنه حريق كبير، كانت بالنسبة لنا كطلاّب مسألة ممتعة، انفجرت أطنان من الرصاص والقنابل وملح البارود وكانت تسبب وميضا هائلا تفوق في روعتها الألعاب النارية بالنسبة لنا. بعد شهر من هذا الحادث تقريبا قام يو آن شيه كاي بطرد تان ين كاي وسيطر على جهاز السلطة السياسي في الجمهورية. فحلّ تانغ هسيانغ مينغ مكان تان ين كاي وبدأ في إقامة التحضيرات لتتويج يو آن.

لم أكن منسجما في المدرسة المتوسطة الأولى إذ أنّ برنامجها محدود، كما أنها صارمة في تعليماتها. وخرجت بقناعة بعد قراءتي لكتاب "عرض للتفسيرات الإمبراطورية" أنّه من الأفضل أن أباشر القراءة ذاتيا. تركت المدرسة بعد ستة أشهر ورتبت برنامجا دراسيا خاصا بي، يتلخّص في ضرورة الانتساب لمكتبة الولاية في هونان والمطالعة اليومية. كنت منتظما وحريصا في دراستي وأعتبر نصف السنة التي قضيتها على هذا النحو ثمينة جدّا. كنت أتوجّه منذ الصباح الباكر إلى المكتبة أتوقّف عند الظّهر مدّة بسيطة لتناول كعكتيْ أرز وجبة غذائي اليوميّة وتابعت ذلك يوميّا حتّى موعد إغلاق المكتبة.

في هذه الآونة من التثقيف الشخصي قرأت العديد من الكتب تبحث في جغرافيا العالم وتاريخه، كما رأيت لأوّل مرّة بتمعّن خريطة العالم وقرأت كتاب آدم سميث "ثروة الشعوب" وكتاب داروين "أصل الأجناس" وكتابا يبحث في الأخلاق كتبه جون ستيوارت ميل، كما قرأت كتابات روسو ودراسات المنطق لسبنسر، وكتابا عن القانون لمونتسكيو. كنت أمزج بين الشعر والقصص الخيالية وقصص اليونان القديمة مع الدراسة الجدية لتاريخ وجغرافية روسيا وأمريكا وأنكلترا وفرنسا وبلدان أخرى.

كنت أقيم حينها في بيت خاص بمواطني مقاطعة هسيانغ هسيانغ، حيث يسكن هناك كثير من الجنود المتقاعدين أو المسرّحين من المقاطعة، والذين لا يملكون عملا وحالتهم الماديّة سيّئة. هنا بدأت أفكّر جديّا في مهنة لي ولمّا كنت ميّالا للتعليم بدأت أتابع الإعلانات مرّة أخرى، ولفت نظري إعلان لدار المعلمين الابتدائية في هونان. وقرأت باهتمام مزاياها، فلا رسوم تعليم، طعام رخيص، ونوم سهل، كما وجدت تشجيعا من صديقين لي على الالتحاق، لأنهما كانا بحاجة لمساعدتي في كتابة امتحان الدخول لهما. كتبت لأهلي أخبرهم عن بغيتي الجديدة وحصلت على موافقتهم. كتبت موضوعيْ الإنشاء لصديقيّ ثمّ كتبت آخر لنفسي، وكانت الموافقة لنا جميعا. لم أكن أعتبر حينها هذا الغش مع أصدقائي عملا لا أخلاقيّا بل اعتبرته مجرّد تعبير عن صداقتي لهما.

قضّيتُ في معهد المعلمين خمس سنوات واستطعت خلالها مقاومة إغراءات الإعلانات اللاّحقة، إلى أن حصلت على شهادتي. كثرت الأحداث التي عشتها هنا في هذا المعهد. بيد أنّ معلوماتي السياسية بدأت تتركّز خلال هذه الفترة كما اكتسبت تجاربي الأولى في العمل الاجتماعي. كانت هناك تعليمات عديدة في المدرسة الجديدة لم أكن مقتنعا بمعظمها. كنت أعارض المواضيع اللاّزمة في العلوم الطبيعيّة وأدفع باتّجاه التخصص في العلوم الاجتماعيّة. لم أكن أعير اهتماما للعلوم الطبيعيّة لذا حصلت على علامة متدنية فيها. وكم كان يزعجني موضوع الرسومات الطبيعيّة الإلزامية إذ كنت أعتبره تافها جدّا. كنتُ أفكّر بأبسط الرسومات لأضعها بسرعة و أغادر الصفّ. وأذكر أنّ إحدى رسوماتي كانت صورة لنصف الشمس أثناء المغيب. فمثّلتها بخطّ مقام عليه نصف دائرة. وأذكر مرّة أخرى أنني قدمت رسما لبيضة حصلت على إثرها على علامة 40% ورسبت بها، غير أنّ علاماتي في العلوم الاجتماعية كانت تعدّل مستوى العلامات المتدنية في المواضيع الأخرى.

كان أحد المدرسين الصينيين والذي يلقّبه الطلاب "يوآن ذو اللّحية الطويلة" يسخر من كتاباتي وينعتها بأنّها كتابات صحفي. كان يكره ليانغ تشي تشاو والذي كنت أعتبره مثالا يُحتذى به. ولكن المدرّس اعتبره نصف مثقف. اضطررت أمام هذا الوضع لتغيير أسلوبي ودرست كتابات هان يبو وأتقنت التعابير الكلاسيكية. واعتبر الفضل في قدرتي على كتابة موضوع إنشائي مقبول بالأسلوب الكلاسيكي حتّى يومنا هذا يعود فضله إلى "يوآن ذي اللّحية الطّويلة".

تأثّرت كثيرا بمدرّس يدعى يانغ تشين تشيه. وهو طالب أنهى دراسته في انكلترا حتى ارتبطت حياتي به بشدة في وقت لاحق. كان يدرّس الأخلاق وكان بمسلكه خلوقا ومثاليا. كان يؤمن بما يعلوه من أخلاق إيمانا كاملا ويحاول جادّا أن يؤثر على طلابه ليتبعوا العدل والأخلاق وليصبحوا رجالا صالحين لخدمة مجتمعهم. و بتأثير منه قرأت كتابا مترجما عن الأخلاق نقله "تساي يوآن بي". تأثرت به وكتبت موضوعا بعنوان: "النشاط الذّهني". كنت مثاليا آنذاك، الأمر الذي دفع مدرّسي يانغ تشين تشيه بالثناء على موضوعي من وجهة نظره وسجّل لي علامة كاملة.

كان أحد المدرسين ويدعى تانغ يزوّدني بأعداد من صحيفة "جريدة الشعب" (مين باو) وكنت أطالعها باهتمام بالغ وقد اطلعت من خلالها على أعمال وبرامج التونغ مينغ هوي(7). وفي إحدى المطالعات قرأت عن قصّة طالبين صينيين قطعا الصين سيرا على الأقدام وصولا إلى تاتسينلو على أطراف التبت. ألهمني ذلك كثيرا ووددت لو أستطيع العمل مثلهم، غير أنني لا أملك مالا كافيا لذا فكّرت بضرورة تجربة قدرتي على السّفر في ولاية هونان أوّلا.

في الصّيف التالي بدأت رحلتي في الولاية مشيا على الأقدام وبرفقة طالب يدعى هسياو يو، وقطعنا مسافة واسعة لمناطق متعددة. ولم نكن نملك مليما واحدا، كان الفلاحون يطعموننا ويوفّرون لنا أماكن النوم وحيثما كنّا نذهب كنّا نعامل بالحُسنى.

أصبح هسياو يو موظفا في حكومة الكومنتانغ في نانكينغ تحت إمرة يي يي تشي

والذي كان مديرا لدار المعلمين الابتدائية، حيث وصل إلى منصب كبير في نانكينغ فعيّن هسياو في منصب مدير متحف قصر بكين. باع هسياو بعض الكنوز الثمينة من المتحف واختفى مع ثمنها عام 1934.

أعلنتُ في أحد الأيّام عن طريق جرائد تشانغشا داعيا جميع المهتمّين في العمل الوطني للاتّصال بي، وحددت مواصفات لشبان ذوي تصميم عالٍ واستعداد وصلابة لتقديم التضحيات. تلقيت ثلاثة ردود لهذا الإعلان كان أحدها من ليوتشيانغ لونغ والذي انضمّ إلى الحزب الشيوعي فيما بعد وخانه بعد ذلك. أمّا الردّين الآخرين فكانا من شابين أصبحا فيما بعد في خندق الرجعيين المتطرّفين. وردّ آخر قدّمه شابّ غير ملتزم يدعى لي لي سان(8) الذي سمع كلّ ما لديّ من آراء وذهب دون أن يُقدّم رأيه في الموضوع أو أيّ اقتراح آخر، ولم تتطوّر صداقتنا أبدا.

واستطعت تدريجيا أن أشكّل حلقة طلابية حولي، تطوّرت لتصبح فيما بعد ذلك نواة لجمعية(9) ذات تأثير واضح على قضايا ومستقبل الصين. كانت هذه المجموعة الصغيرة تضمّ نخبة جديّة من الشبان الذين لا يعيرون اهتماما لمناقشة القضايا الثانوية حيث لم يكن لديهم وقت للغراميات واعتبروا أنّ الزّمن حرج جدّا، ويحتاج لمعرفة واطّلاع يفوق كثيرا أهمية الحديث حول النساء أو القضايا الشخصية الأخرى. كانت كلّ ممارسات هذه المجموعة هادفة.

لم أكن مهتما بمسائل الجنس فقد زوّجني والدي بينما كنت في الرابعة عشر بفتاة في العشرين من عمرها، ولكنني لم أعش معها بتاتا في أيّ وقت من الأوقات ولم أكن أعتبرها زوجة لي، أو أفكّر فيها. كان رفاقي يرفضون حتّى التحدّث بالأمور العادية للحياة اليومية، كما يرفضون الأحاديث السائدة حول الجاذبية الجنسية والتي كانت تشغل حيّزا مهمّا من تفكير الشبان الآخرين. أذكر أنني كنت في زيارة لأحد الشبان حيث بدأ يتحدث عن شراء اللّحم، ثمّ استدعى خادمه في حضوري وناقشه الموضوع وكلّفه بشراء كمية. كان لهذا الحديث وقع سيّء عليّ بحيث لم أعد أقابل هذا الشخص مرّة أخرى. كنّا نفضّل جميعا التحدّث حول الأمور الكبيرة كالطّبيعة والإنسان والمجتمع الإنساني والوجود... الخ.

بدأنا نكثر من التدريبات البدنية ومن تجوالنا في الحقول وخاصة في عطل الشتاء، نتسلّق الجبال وأسوار المدينة ونقطع الأنهر، وكنّا إذا ما أمطرت نخلع ملابسنا ونعتبر الحادث حمّاما مطريّا. وأثناء الأجواء الحارّة كنّا نرتدي قمصانا كثيرة ونعتبر ذلك حمّاما صيفيّا. وأثناء الرّياح الربيعيّة كنّا نقوم برياضة جديدة ونعتبرها حمّاما ريحيّا. كنّا ننام في العراء عندما تسقط الثلوج ونسبح في موسم الشتاء في الأنهر الباردة. كنّا نعتبر ذلك تدريبا بدنيّا ضروريّا. وقد ساعدني ذلك في بناء بنية قادرة على تحمّل المشاقّ، والتي احتجتها كثيرا فيما بعد في مسيراتي ذهابا وإيابا في جنوب الصين وبعدها أثناء المسيرة الكبرى من كيانغسي إلى الشمال الغربي.

بدأتُ أقيم اتّصالات وعلاقات واسعة بأصدقاء وطلاب موزعين بين المدن والقرى والولايات الأخرى، بدأت أحسّ بضرورة وجود تنظيم متراصّ ومتين وساهمت مع بعض رفاقي في تأسيس الهسين مين هسوي هوي أي (الجمعيّة الثقافية للشعب الجديد) وذلك عام 1917. كانت تضمّ ما بين سبعين إلى ثمانين عضوا وقد أصبح الكثير منهم أعضاء بارزين في الحزب الشيوعي الصيني وفي تاريخ الثورة الصينية. ومن بين الشيوعيين الأكثر شهرة والذين كانوا سابقا من بين هؤلاء أذكر الأشخاص التالية أسماؤهم: لومان الذي أصبح الآن سكرتيرا للجنة التنظيم الحزبي. هسيا هي من قادة جيش الجبهة الأحمر الثاني. هو هسيين هون الذي أصبح رئيسا للمحكمة العليا في مناطق السوفيتات الوسطى، وقتل فيما بعد على يد تشيانغ كاي شيك. كوليانغ الذي أصبح من قادة المنظمين العماليين وقتله الجنرال هوشيين عام 1930. هسياد تشوتشانغ الذي أصبح كاتبا في الاتحاد السوفياتي. تساي هوتشنغ أصبح عضوا في اللجنة المركزية وارتد فيما بعد والتحق بالكومنتانغ وأصبح منظما لاتحاد رأسمالي. وهسياو تشن الذي أصبح قائدا حزبيا بارزا وأحد الموقعين الستة على وثيقة تأسيس الحزب ولكنه توفي منذ أمد قصير بسبب المرض. قتل معظم أعضاء الهسين مين هسوي هوي إبّان الثورة المضادة عام 1927.

وفي تلك الفترة أيضا برزت جمعيّة أخرى تشابه الهسين مين هسوي هوي وتدعى جمعيّة الإنعاش الاجتماعي في هوبيه. وقد انضمّ معظم أعضائها في وقت لاحق إلى الشيوعيين أذكر منهم رئيسها وين ته ينغ الذي أعدمه تشيانغ كاي شيك أثناء الثورة المضادة ولين بياو الذي أصبح رئيسا لأكاديمية الجيش الأحمر، وتشانغ هوا المسؤول عن العمل داخل المناطق البيضاء. كما ظهرت جمعية أخرى تدعى فوهسيه في بيبنغ والتي أصبح معظم أعضائها أيضا شيوعيين، كما ظهرت جمعيات تقدمية أخرى نظّمها شبّان حزبيّون في مناطق الصّين خاصّة في شانغهاي وهانغ تشو وهانكو وتينتسين(10) والتي بدأت تشكّل محورا بارزا في السياسة الصينية.

تأسست معظم هذه الجمعيات بتأثير مباشر من جريدة "الجيل الجديد" (هسين تشنغ نين) الصحيفة الشّهيرة والمعبّرة عن النهضة الأدبية وكان يشرف على تحريرها تشن توهسيو. بدأت أتابع هذه الصّحيفة منذ كنت طالبا في دار المعلمين الابتدائية، وكنت أكنّ إعجابا لما يكتبه هوشيه وتشن توهسيو. حتّى أصبحا المثال الذي أصبو إليه، مستبدلا بذلك ليانغ تشي تشاو وكانغ يووي اللّذين أسقطتهما من مخيّلتي.

كان توجّهي الفكري في هذه المرحلة مزيجا غريبا من الأفكار اللّيبراليّة والإصلاحيّة الديمقراطيّة والاشتراكيّة الطّوباويّة، كما كانت لديّ انعطافات غامضة نحو"ديمقراطية القرن التاسع عشر" والطّوباويّة واللّيبراليّة القديمة، إلاّ أنّني كنت معاديا لأمراء الحرب والإمبرياليّة بشكل حادّ. التحقت بدار المعلمين الابتدائية عام 1912 وتخرّجت منها عام 1918.

- 3 -

مقدّمة لثورة

كانت هوتزي نين، زوجة ماو تتابع ما يرويه زوجها عن ذكرياته بنفس الاهتمام الذي كنت أبديه، لم تكن قد سمعت من قبل عن الكثير من الوقائع التي أوردها عن حياته أو عن الحركة الشيوعية، كما لم يسمع عنها الكثير من رفاقه في باو آن. نفس ما حدث معي فيما بعد، عندما كنت أسجّل ملاحظات عن ذكريات الكثير من القادة الحمر، فقد كان يلتفّ حوله رفاقه يصغون باهتمام لما يتفوّه به رفيقهم، وبالرغم من أنّهم فاتلوا معا لسنين عديدة إلاّ أنّهم لم يكونوا على بيّنة بأيّ شيء عن أيّام بعضهم البعض قبل عضويتهم في الحزب الشيوعي. كانوا يعتبرون تلك الفترة بالعصور المظلمة وأنّ الحياة لكلّ منهم بدأت منذ اليوم الذي أصبح فيه شيوعيا.

كانت ليلة أخرى، جلس ماو متربعا ساندا ظهره بصندوق من الخشب وقد أشعل سيجارة واستأنف حديثه من حيث انتهى في اليوم السابق: دار المعلمين الابتدائية.

"صرفت ما مجموعه 160 دولارا منذ التحاقي وحتى انتهاء دراستي منها في تشانغشا، بما في ذلك رسوم التسجيل المتعددة. كان ثلث هذا المبلغ ثمنا لشرائي الصحف التي كنت أدفع اشتراكا شهريا لها بما يقارب الدولار، إضافة للكتب والصحف الأخرى المتنوعة. كان والدي يوجّه لوما لهذا التبذير كما يعتبره إسرافا على أوراق تافهة. ولكنني اعتدت على قراءة الصحف(11) باستمرار ولم أتوقف عن قراءة صحف بيبنغ وشانغهاي وهونان طيلة الفترة الممتدة ما بين 1911-1927، حتّى وصولي إلى تشنغكانشان.

توفّيت والدتي أثناء السنة الدراسية الأخيرة وفقدت على إثر هذا الحادث اهتمامي بالعودة إلى المنزل أكثر من أيّ وقت مضى. وقررت قضاء ذلك الصيف في بيبنغ وبكين. كان العديد من الطلبة يخطّطون حينها للسفر إلى فرنسا ليتابعوا دراستهم يشجعهم على ذلك نظام "العمل والتعليم" السائد في فرنسا والذي يلقى تشجيعا من الشبان في محاولة من فرنسا لكسب هؤلاء الطلبة إلى جانبها في الحرب العالمية. وقرّر هؤلاء الطلاب تعلم اللغة الفرنسية في بيبنغ قبل مغادرة الصين. وكان لي سهم في تنظيم هذه الرحلات التي شارك فيها عدد كبير من طلاب مدرسة المعلمين الابتدائية الهونانية. وأصبحوا فيما بعد من مشاهير التقدميين. وقد تركت هذه الحركة أثرا على هسوتيه ليه إذ تخلّى عن منصبه كمدرّس في المعهد ورحل إلى فرنسا، ولكنه لم ينتظم في صفوف الحزب إلاّ في عام 1927.

وبصحبة بعض الطلبة الهونانيين، توجهت إلى بكين ولكنني لم أرغب في السفر إلى أوروبا رغم مساهمتي في تنظيم هذه الحركة، والتي تدعمها جمعيّة الهسين مين هسوي هوي. شعرت أنني لا أدرك الكثير الكافي عن بلادي، ويهمني قضاء هذه الفترة في الصين. تلقّى الطلاب الذين قرروا التوجه إلى فرنسا، اللغة الفرنسية على يد لي تشيه تيون، رئيس جامعة تشنغ – فا (الجامعة الفرنسية – الصينية) ولم أكن بينهم في ذلك لأنني كنت أحتفظ لنفسي بمخططات أخرى.

توقعت أن تكون تكاليف معيشتي في بيبنغ غالية، لذا توجهت إلى العاصمة بعد استدانة مبلغ من بعض الأصدقاء. وصلت إلى بكين وبدأت أبحث عن عمل. كان يانغ تشنغ تشيه مدرس الأخلاق السابق في دار المعلمين الابتدائية، قد أصبح مدرسا في جامعة بكين الوطنية. فطلبت منه مساعدتي في إيجاد عمل، قدّمني بدوره إلى مسؤول مكتبة الجامعة ويدعى لي تاتشاو الذي أصبح من مؤسسي الحزب الشيوعي في الصين، وقد أعدمه تشانغ تسولين. ساعدني لي في العمل كمساعد في المكتبة وكنت أتقاضى راتبا قدره ثماني دولارات شهريا.

كان الناس يتجاهلونني نظرا لعملي المتواضع، كان من مهماتي تسجيل أسماء الذين يطالعون الصحف والذين لم يكونوا يشعرون بوجودي كإنسان. تعرفت على أسماء الكثير من مشاهير النهضة الثقافية، و من بين أولئك الذين يطالعون في المكتبة: فو سونين ولو تشاي لونغ وآخرين والذين كنت أتشوّق لمعرفتهم. حاولت مرارا أن أخوض معهم في حوار حول الأمور السياسية والثقافية، غير أنهم كانوا مشغولين باستمرار، ولم يكن لديهم الوقت الكافي للاستماع إلى مساعد في المكتبة يتكلّم اللّهجة الجنوبيّة.

وازدادت اهتماماتي الدراسية فالتحقت بجمعيّة الفلسفة وجمعيّة الصّحافة ليتسنّى لي الاستماع إلى المحاضرات في الجامعة. تعرفت في جمعية الصحافة على زملاء مثل تشنغ كونغ بو الذي أصبح موظفا كبيرا في نانكينغ وتانغ بينغ شان الذي أصبح شيوعيا ثمّ انضمّ بعدها إلى ما يسمّى بالحزب الثالث، وشاو بياو بينغ الذي كان يساعدني كثيرا، وكان محاضرا في جمعيّة الصّحافة ذا نزعة ليبرالية في تفكيره ومثاليا عميقا وذا شخصية مؤثرة. قتله تشانغ تسولين عام 1927.

وأثناء عملي في المكتبة قابلت تشانغ كووتاو الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة الشعبية، وكانغ باي تشين الذي انضم فيما بعد إلى جمعية الكوكلاكس كلان في كاليفورنيا. وتوآن هسيه يين الذي أصبح وكيلا لوزارة التربية في نانكينغ. وقابلت يانغ كاي هوي ووقعت في حبّها، كانت ابنة مدرّسي الأسبق في الأخلاق يانغ تشين تشيه، والذي أثّر عليّ كثيرا في شبابي، كما أصبح صديقا حميما لي في بكين.

بدأت تنمو اهتماماتي السياسية كما بدأت أتحوّل تدريجيّا نحو جذريّة التفكير. لقد أخبرتك عن خلفيّة هذا التحول، ولكن تفكيري كان لا يزال في حينها ضبابيا ولم أستطع تحديد الطريق. قرأت بعض الشيء عن المقالات الفوضوية وتأثرت بها، كنت أناقش إمكانيات تطبيق الفوضوية في الصين مع أحد الطلاب الذي كان يزورني ويدعو تشو هسين بي، وكنت مقتنعا بالكثير من فرضياتها.

كانت أحوالي المعيشية في بكين سيئة للغاية، إلاّ أنّ جمال العاصمة وروعتها شكلت تعويضا حيا عن هذا النقص. كنت أقيم في مكان يدعى "سان ين تشينغ" أي بئر الثلاث عيون، تضمني وسبعة آخرين غرفة صغيرة. عندما كنّا نرصّ أجسادنا على الكانغ، لم يكن لدينا الاتساع الكافي للتنفس. كان عليّ أن أحذّر مجاوري كلما انقلبت في نومي. ولكنني كنت أمتلئ إحساسا بالربيع الشمالي الباكر وزهور اللوز البيضاء المتفتحة بينما لا تزال الثلوج تغذي سطح البحر الشمالي. كنت أرى في الحدائق العامة والمروج المحيطة بالقصر القديم حبيبات الثلج المتعلقة بأغصان الصفصاف في باي هاي. وأتذكر الشاعر تشين تشانغ في وصفه لأشجار باي هاي ذات اللآلئ الشتوية "وكأنها آلاف أشجار الإجّاص المتفتّحة" كانت أشجار بكين المتناثرة تحوز على إعجابي بروعتها.

ذهبت برفقة الطلاب المتوجهين إلى فرنسا في طريقي إلى شانغهاي في مطلع عام 1919. كنت أحمل تذكرة توصلني إلى تينتسين فقط ولم أكن أملك ما يؤهلني لمتابعة السفر مسافة أبعد، غير أنني رأيت في المثل الصيني القائل: "لن تؤخر السماء مسافرا" مبررا لي، حيث اقترضت مبلغا قدره عشرة دولارات من زميل لي في الدراسة والذي استطاع الحصول على بعض الأموال من مدرسة المحتسبة في بيبنغ. ساعدني ذلك في شراء تذكرة توصلني إلى بوكو، في طريقي إلى نانكينغ، توقفت في تشوفو وزرت قبر كونفوشيوس ورأيت النهر الصغير الذي يستعمله أتباع كونفوشيوس في غسل أرجلهم، كما شاهدت المدينة الصغيرة التي أبصر فيها كونفوشيوس النور لأوّل مرّة. كما رأيت إحدى الأشجار الشهيرة قرب المعبد الذي خُصّص لكونفوشيوس، وكما يروى أنّ هذه الشجرة كانت زراعته. رأيت أماكن أثرية متعددة كما تسلقت جبل تاي شان المقدس حيث تنسك فيه الجنرال فنع يوهسيانغ وكتب مخطوطاته الوطنية.

وعند وصولي بوكو لم أكن أملك أيّ شيء من النقود. وكنت لا أدري كيف يمكنني مغادرة المدينة، ولم أكن أعرف أحدا ليقرضني مالا، وممّا زاد مأساتي سوءا أنّ أحدهم سرق حذائي الوحيد. ولكن "السماء لن تؤخر مسافرا" فقد قابلت أثناء تجوالي خارج محطة القطار أحد أصدقائي القدامى من هونان. وأنقذني بإقراض مال لشراء حذاء كما قدّم لي ما يكفي لشراء تذكرة توصلني إلى شانغهاي. وهكذا استطعت متابعة رحلتي بحرص على حذائي الجديد. وفي شانغهاي وجدت أنّهم جمعوا أموالا كافية لمساعدة الطلاب في الذهاب إلى فرنسا، كما احتفظوا لي بمبلغ يساعدني في العودة إلى هونان. فودّعت رفاقي المسافرين بحرا وبدأت رحلة العودة إلى تشانغشا.

شعرت بنجاح رحلتي هذه حيث زرت المناطق التالية:

سرت على جليد خليج باي هاي، وتجولت حول شواطئ بحيرة تانغ تينغ، كما درت حول سور باوتينغفو وسور هسو تشو الشهير في "الممالك الثلاث" وحول سور نانكينغ التاريخي، وأخيرا جبل تاي شاي وضريح كونفوشيوس. كانت هذه مسيرات تستأهل إضافتها إلى مغامراتي في التجوال مشيا على الأقدام في هونان.

بعد عودتي إلى تشانغشا بدأت في تسلم مهام سياسية كثيرة. إذ أصبحت رئيسا لتحرير مجلة هسيانغ تشيانغ، جريدة طلاب هونان، وذات الأثر الواسع بين صفوف طلبة الجنوب، كما ساهمت في تأسيس جمعية ون هوا شو هوي (جمعية الكتاب الثقافية) في تشانغشا وهي جمعية لتنمية الميول السياسية والثقافية الحديثة. كانت هذه الجمعية وجمعية الهسين مين هسوي هوي على جانب المعارضة لحاكم هونان العسكري المدعو تشانغ تشينغ ياو القذر. فقُدنا إضرابا طلابيا شاملا ضد تشانغ مطالبين بعزله، وأرسلنا وفودا إلى بيبنغ والجنوب الغربي حيث كان يعمل صن يات صن. الأمر الذي دفع تشانغ تشينغ ياو لإيقاف هسيانغ تشيانغ كعمل مضاد للمعارضة الطلابية.

سافرت بعد ذلك إلى بكين كممثل لجمعية الهسين مين هسوي هوي، وللمساعدة في تنظيم حركة مناهضة للعسكريين هناك. وسّعت الهسين مين هسوي هوي نضالها ضد تشانغ تشينغ ياو إلى حركة عامة مناهضة للعسكريين، وقد تسلمت مسؤولية رئيس بوكالة أنباء لدفع هذا الموقف إلى الأمام. حققت الحركة نجاحا جزئيا في هونان، حيث أسقط تاي ين كاي، تشانغ تشينغ ياو وأقام نظاما جديدا في تشانغشا. في تلك الفترة تبلور اتجاهان داخل جمعية الهسين مين هسوي هوي، وقد أصر الجناح اليساري على برنامج اجتماعي واقتصادي وسياسي بعيد النظر. وكان للجناح اليميني موقف آخر.

عدت إلى شانغهاي مرة ثانية عام 1919، وقابلت تشن توهسيو(12) هناك. كنت قد قابلته للمرة الأولى في بكين أثناء وجودي في جامعة بكين الوطنية، وتأثرت به أكثر من أي شخص آخر، كما قابلت وقتها هوشيه محاولا دفعه لدعم نضال الطلاب الهونانيين. تدارست مع تشن توهسيو في شانغهاي تصوراتنا لإقامة عُصبة إعادة بناء هونان، وعلى الإثر عدت إلى تشانغشا مبتدئا عملي التنظيمي فيها. بدأت أعمل في مهنة التدريس وأبقيت على علاقاتي وعملي في الهسين مين هسوي هوي. كانت الجمعية تعمل ضمن برنامج لاستقلال حقيقي لهونان ولإقامة حكم ذاتي فعال. بدأت جماعتنا تتحرك بنشاط ملحوظ لفصل هونان وذلك بعد شعور متزايد باليأس من إصلاح الحكومة الشمالية. كما تصوّرنا أنّ بإمكاننا تطوير هونان بسرعة أكبر. كنت آنذاك أتعاطف مع مبدأِ مونرو الأمريكي وسياسة الباب المفتوح.

قام أحد العسكريين المدعو تشاو هينغ تي بطرد تان ين كاي من هونان مستغلا حركة "استقلال هونان" لتلبية مصالحه الشخصية. كان يتظاهر بتأييدها داعيا إلى إقامة ولايات متحدة ذات حكم لا مركزي في الصين، غير أنه عند وصوله إلى السلطة عمل على خنق الحركة الديمقراطية بكل قوته. كانت شعاراتنا آنذاك تطرح المساواة بين الرجل والمرأة وتطالب بتشكيل حكومة وطنية برلمانية. كنّا نطرح هذه الشعارات بشكل بارز في صحيفتنا "هونان الجديدة". وقدنا حملة تحريضية على برلمان الولاية، الذي كان يشكل غالبيته الإقطاعيون والأسياد الذين يعينهم العسكريون. وتتوّج نضالنا بتحطيم كلّ المخططات والدعايات المليئة بالوعود والعبارات الرنانة.

اُعتبر الهجوم على البرلمان حدثا كبيرا في هونان أخاف حكام الولايات. ولمّا تسلّم تشاو هسينغ تي السلطة في هونان تخلى عن جميع الآراء التي كان يدعمها وتحوّل ليخنق بعنف كل المطالبات من أجل الديمقراطية. وأمام هذا الوضع تحول نضال جمعيتنا ضده. أذكر حادثا وقع عام 1920 عندما نظّم الهسين مين هسوي هوي مظاهرة للاحتفال بالعيد الثالث لثورة أكتوبر، فاعترضتها الشرطة وكان بعض المتظاهرين يحاولون رفع الرايات الحمر إلاّ أنّهم منعوا من ذلك قأشاروا للشرطة بأنّ المادّة 12 من الدستور تسمح للناس بالتجمهر والتحدث والانتظام، ولكن الشرطة لم تكترث للأمر وأعلنت أنها لم تأت لدراسة مواد الدستور وإنّما جاءت طبقا لأوامر الحاكم تشاو هينغ تي. منذ ذلك التاريخ أصبحت أكثر قناعة بأنّ الإصلاحات الجذرية لا يمكن تحقيقها إلاّ بالسلطة السياسية الشعبية المكتسبة بالنضال الجماهيري.

في شتاء عام 1920 بدأتُ أنظّم حركة سياسية عمالية لأوّل مرّة مسترشدا بالنظرية الماركسية وبتجربة الثورة الروسية. أثناء زيارتي الثانية لبكين قرأت الكثير عن أحداث الاتحاد السوفياتي وبدأت أبحث بجدية عمّا أجده من الدراسات الشيوعية الموجودة وقتئذ في الصين. كان لثلاثة من الكتب الماركسية دور أساسي في تحويلي باتجاه الإيمان الكامل بالماركسية والتي اعتبرتها منذ ذلك الوقت التفسير العلمي للتاريخ ولم أتزحزح عنها قيد أُنملة. كانت هذه الكتب الثلاث: "البيان الشيوعي" الذي ترجمه نشن وانغ تاو، ثمّ "الصراع الطبقي" لكاوتسكي، والذي يعتبر أوّل كتاب ماركسي ينشر في الصين و "تاريخ الاشتراكية" لكيركوب. و في صيف عام 1920 بنيت قناعات نظرية بالماركسية، مع درجة محدودة في الممارسة، ومنذ ذلك التاريخ اعتبرت نفسي ماركسيا.

وفي تلك السنة تزوجت من يانغ كاي هوي(13).

____________________________________________________________________________________

الهوامش

(1)- يساوي التان الواحد 133 رطلا انكليزيا تقريبا.

(2)- كان ماو يستعمل جميع هذه المصطلحات السياسية بشكل فكاهي في تفسيراته، ويضحك كلّما تذكّر حادثة جديدة.

(3)- كان ليانغ تشي تشاو كاتبا موهوبا في أواخر عهد المانتشو، وكان قائدا لحركة إصلاحية أدّت إلى نفيه. كان ليانغ وكانغ يووي الآباء المعلمين للثورة الأولى عام 1911. دعا لين يوتانغ، ليانغ تشي تشاو بأنه "أعظم شخصية في تاريخ الصين الصحافي".

(4)- يشير الشعر بوضوح لأعياد الربيع العظيمة في اليابان بعد معاهدة بورتسموث التي أنهت الحرب اليابانية الروسية.

(5)- أصبح تشانغ تشيه قائدا للجيوش الوطنية التابعة لحكومة ووهان بقيادة وانغ تشينغ وي عام 1927. فخانه وبدأ المجزرة الفلاحية في هونان.

(6)- أصبح يوآن فيما بعد رئيسا للصين وقد حاول سنة 1915 أن يصبح امبراطورا عليها.

(7)- التونغ مينغ هوي جمعية سرية ثورية أسسها الدكتور صن يات صن، وشكلت النواة التنظيمية للكومنتانغ، والتي استولت على السلطة في نانكينغ. كان معظم كوادرها مبعدين إلى اليابان حيث قاموا بحملة عنيفة لمحو تأثيرات ليانغ تشيه تشاو وكانغ يووي قادة الحزب الملكي الإصلاحي.

(8)- أصبح لي لي سان فيما بعد مسؤولا عن "خط لي لي سان الشهير" الذي عارضه ماو تسي تونغ بشدة، كما سيخبرنا ماو لاحقا عن نضال لي لي في الجيش الأحمر ومعطياته

(9)- جمعية الهسين مين هسوي هوي.

(10)- كانت تدعى جمعية تينتسين: تشووو هسوهوي، أي جمعية الإيقاظ والتي قادت تنظيم الشباب التقدمي، كان شوان لاي أحد مؤسسيها كما كانت الآنسة ننغ ينغ تشاو إحدى أعضائها وزوجة لاحقة لشوان لاي. وماتشون الذي أعدم في بكين عام 1927، وسن هسياو تشنغ الذي أصبح سكرتير لجنة كانتون التابعة للكومنتانغ.

(11)- كانت الصحف حديثة العهد في الصين وكان الناس والموظفون الرسميون منهم خاصة يستاؤون من هذه الصحف.

(12)- ولد تشن توهسيو في انهوي عام 1879، وأصبح باحثا وكاتبا شهيرا، وكان يرأس دائرة الأدب في جامعة بكين الوطنية –مهد النهضة الأدبية- التي كان يقودها تشنز بدأت جريدة الهسين تشينغ نيين حركة جديدة لاعتبار الباي هوا (اللغة الصينية العامية) لغة وطنية، بدلا من اللغة الصينية الكلاسيكية الميتة الـ(ون وين). كان تشن أحد مؤسسي الحزب الشيوعي وأحد الدعاة الرئيسيين لتشكيله. وأصبح عضوا في اللجنة التنفيذية المركزية للكومنتانغ. اعتقلته سلطات الكومنتانغ في شانغهاي عام 1933 وأقامت له محكمة صورية، قضّى بقرارها حكما طويلا في سجون نانكينغ. ويبرز تشن إلى جانب لوهسون كأحد أبرز الوجوه الأدبية في عصره.

(13)- لم يشر ماو مرة أخرى إلى حياته مع يانغ كاي هوي. كانت يانغ طالبة في جامعة بكين الوطنية وأصبحت فيما بعد من قادة الشبيبة أثناء الثورة الكبرى، وإحدى أكثر النساء الشيوعيات نشاطا. اعتبر زواجهما مثالا رومانسيا لدى الشبان المتطرفين في هونان. وكما يبدو أنّ زواجهما بدأ كتجربة ومن الواضح انّهما كانا على علاقة حبّ كبيرة، وعلى ما أعتقد فإنّها قتلت على يد هوشيين عام 1930.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق