29‏/5‏/2014

مـاوتسي تــونغ : في الممــارسة العمليّــة



مـــاوتسي تـــونغ

في الممارسة العمليّة


في الممارسة العملية
في العلاقة بين المعرفة والممارسة العملية
- العلاقة بين المعرفة والعمل

(يوليو –تموز – 1937)
- كان في حزبنا رفاق من ذوي نزعة الجمود العقائدي ظلوا فترة طويلة من الزمن يرفضون تجربة الثورة الصينية، منكرين الحقيقة التالية: "الماركسية ليست عقيدة جامدة بل هي مرشد للعمل"، فكانوا يقنعون بالتقاط شذرات من نصوص الكتب الماركسية دون أن يهضموها، ليهولوا بها على الناس.

وكذلك كان هناك رفاق آخرون من ذوي النزعة التجريبية ظلوا خلال فترة طويلة من الزمن يحصرون أنفسهم في محيط تجاربهم الشخصية الجزئية فكانوا لا يدركون ما للنظرية من أهمية بالنسبة إلى الممارسة العملية الثورية، ولا يرون الوضع العام للثورة، وبالتالي كانوا يعملون على غير هدى رغم أنهم يبذلون في العمل الجهود المضنية. وقد سببت الأفكار الخاطئة لهذين الفريقين من الرفاق ولاسيما أفكار أصحاب الجمود العقائدي خسائر جسيمة للثورة الصينية خلال أعوام 1931-1934، ولكن أصحاب الجمود العقائدي كانوا يرتدون معطف الماركسية، لذلك استطاعوا أن يضللوا كثيراً من الرفاق. وكتب الرفيق ماوتسي تونغ مقالة "في الممارسة العملية" هذه ليفضح، انطلاقاً من وجهة النظر الماركسية حول المعرفة، هذه الأخطاء ذات النظرة الذاتية في الحزب التي تتمثل في نزعة الجمود العقائدي والنزعة التجريبية وعلى الأخص في نزعة الجمود العقائدي. وقد وضع للمقالة عنوان "في الممارسة العملية" لأنها تركز على فضح النظرة الذاتية المتمثلة في نزعة الجمود العقائدي التي تستهين بشأن الممارسة العملية. وكان الرفيق ماوتسي تونغ قد ألقى قبل ذلك محاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في يانآن تضمنت الأفكار الواردة في هذه المقالة.

كانت المادية قبل ماركس تنظر إلى قضية المعرفة بمنأى عن طبيعة الإنسان الاجتماعية وبمعزل عن تطوره التاريخي، ولذلك لم يكن في مقدورها أن تدرك تبعية المعرفة للممارسة العملية الاجتماعية، أي تبعية المعرفة للإنتاج والصراع الطبقي.
أما الماركسيون فيعتبرون أولاً وقبل كل شيء أن نشاط الإنسان في الإنتاج يشكل أهم نشاطاته العملية الأساسية ويقرر نشاطاته الأخرى. فالإنسان، بالاعتماد بصورة رئيسية على نشاطه في الإنتاج المادي، يتفهم تدريجياً ظواهر الطبيعة وخصائصها والقوانين التي تتحكم فيها، والعلاقة بين الإنسان وبين الطبيعة؛ وكذلك يتفهم تدريجياً وعلى درجات متفاوتة عن طريق نشاطه في الإنتاج ما يربط بين الإنسان والإنسان من علاقات معينة. ولا يمكنه الحصول على أي معرفة من هذه المعارف بمعزل عن النشاط في الإنتاج. ففي المجتمع اللاطبقي يتعاون كل امرئ، بوصفه فرداً من المجتمع، مع أفراد المجتمع الآخرين ويرتبط معهم بعلاقات إنتاج معينة ويسهم في النشاط الإنتاجي من أجل حل مشكلة حياة الإنسان المادية. وهذا هو المصدر الأساسي لتطور المعرفة البشرية.
إن الممارسة العملية التي يباشرها الإنسان في المجتمع لا تقتصر على شكل النشاط الإنتاجي وحده، بل تتخذ أشكالاً أخرى عديدة _ الصراع الطبقي والحياة السياسية والنشاطات العلمية والفنية، وباختصار جميع مجالات الحياة الواقعية في المجتمع وهي جميعاً مما يساهم فيه الإنسان ككائن اجتماعي. وهكذا يتوصل، بدرجات متفاوتة، إلى معرفة العلاقات المختلفة بين الناس لا من خلال حياته المادية وحسب، بل من خلال حياته السياسية والثقافية (وكلتاهما مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحياة المادية) أيضاً. ومن بين أشكال الممارسة العملية الاجتماعية هذه، يترك الصراع الطبقي خاصة، في أشكاله المختلفة، أثراً عميقاً في تطور المعرفة البشرية. ففي المجتمع الطبقي يعيش كل إنسان كفرد من أفراد طبقة معينة، ويحمل كل نوع من أنواع التفكير دون استثناء طابع طبقة معينة.
يعتبر الماركسيون أن النشاط الإنتاجي في المجتمع البشري يتطور خطوة فخطوة من مرتبة دنيا إلى مرتبة عليا، وتبعاً لذلك فإن معرفة الإنسان، بالطبيعة كانت أم بالمجتمع، تتطور أيضاً خطوة فخطوة من مرتبة دنيا إلى مرتبة عليا، أي من معرفة سطحية إلى معرفة عميقة ومن معرفة وحيدة الجانب إلى معرفة متعددة الجوانب. وفي مرحلة طويلة من التاريخ، لم يكن من الممكن لمعرفة الناس بتاريخ المجتمع أن تتعدى حد المعرفة الوحيدة الجانب، والسبب في ذلك يعود من جهة إلى أن تعصب الطبقات المستغلة (بكسر الغين) كان على الدوام يشوه تاريخ المجتمع، ويعود من جهة أخرى إلى أن النطاق الضيق للإنتاج كان يحد من آفاق الناس. ولم يستطيعوا أن يحصلوا على فهم تاريخي متكامل لتطور تاريخ المجتمع، ويحولوا معرفتهم بالمجتمع إلى علم، أي علم الماركسية، إلا عندما ظهرت البروليتاريا الحديثة مع ظهور القوى المنتجة الجبارة، أي الصناعات الكبرى.
ويعتبر الماركسيون أن الممارسة العملية التي يباشرها الإنسان في المجتمع هي وحدها المقياس الذي يختبر به ما إذا كانت معرفة الإنسان بالعالم الخارجي حقيقة أم لا. والواقع أن معرفة الإنسان لا تثبت صحتها إلا عندما يتوصل من خلال ممارسته العملية الاجتماعية (خلال الإنتاج المادي والصراع الطبقي والتجربة العلمية) إلى إحراز النتائج المنشودة. فإذا أراد الإنسان أن يحقق النجاح في عمله، أي يحقق النتائج المنشودة، فعليه أن يجعل أفكاره متفقة مع قوانين العالم الخارجي الموضوعي، فإذا لم تكن أفكاره متفقة مع هذه القوانين فلابد أن يفشل في الممارسة العملية. وإذا فشل فإنه سوف يستخلص الدروس من فشله ويصحح أفكاره ويجعلها متفقة مع قوانين العالم الخارجي، وعندئذ يستطيع تحويل فشله إلى ظفر، وهذا هو المقصود من قولهم: "الفشل أم النجاح" وقولهم: "كل عثرة تزيد الإنسان فطنة". إن النظرية المادية الديالكتيكية عن المعرفة تضع الممارسة العملية في المقام الأول إذ تعتبر أن معرفة الإنسان لا يمكن أن تنفصل إطلاقاً عن الممارسة العملية، وتنبذ كل النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية الممارسة العملية وتفصل المعرفة عن الممارسة العملية. وهكذا قال لينين: "إن الممارسة العملية أعلى من المعرفة (النظرية) لأنها لا تمتاز بصفة الشمول فحسب، بل تمتاز كذلك بصفة الواقع المباشر."(1) إن للمادية الديالكتيكية_ الفلسفة الماركسية ميزتين بارزتين: أولاهما صفتها الطبقية، فهي تعلن بصراحة أن المادية الديالكتيكية هي في خدمة البروليتاريا، والثانية صفتها العملية، فهي تؤكد على تبعية النظرية للممارسة العملية حيث أن النظرية تقوم على أساس الممارسة العملية ثم تعود لخدمة الممارسة العملية. إن ما يستند إليه المرء لكي يحكم بأن المعرفة أو النظرية حقيقة أو لا، ليس هو الأحاسيس الذاتية بل هو النتائج الموضوعية للممارسة العملية الاجتماعية. فالمقياس الوحيد لمعرفة الحقيقة هو الممارسة العملية الاجتماعية. إن وجهة نظر الممارسة العملية هي وجهة النظر الأولية والأساسية في النظرية المادية الديالكتيكية عن المعرفة(2).
ولكن كيف تنبثق المعرفة البشرية عن الممارسة العملية ثم تعود لتخدم الممارسة العملية؟ سيتضح لنا هذا الأمر إذا ألقينا نظرة على عملية تطور المعرفة.
الواقع أن الإنسان لا يرى في بداية عملية الممارسة العملية سوى ظواهر الأشياء وجزئياتها والروابط الخارجية التي تربط بينها. ومثال ذلك أن بعض الزوار يحضرون يانآن للوقوف على الأحوال فيها. ففي الأيام الأولى يرون موقعها وشوارعها ومبانيها ويقابلون عدداً كبيراً من الناس ويحضرون الولائم والحفلات المسائية والاجتماعات الجماهيرية ويسمعون أحاديث مختلفة ويقرأون وثائق متعددة _ كل هذه هي ظواهر الأشياء وجزئياتها والروابط الخارجية التي تربط بينها. وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الحسية من المعرفة، أي مرحلة الإحساسات والانطباعات. وهذا يعني أن هذه الأشياء المعينة في يانآن تترك أثراً في حواس السادة أعضاء الوفد الزائر وتثير أحاسيسهم وتترك في أذهانهم انطباعات عديدة وصورة عامة عن الروابط الخارجية بين هذه الانطباعات، هذه هي المرحلة الأولى من المعرفة. ولا يستطيع الإنسان بعد في هذه المرحلة تكوين مفاهيم عميقة ولا استخلاص نتائج منطقية.
وباستمرار الممارسة العملية الاجتماعية، تتكرر مراراً الأشياء التي تترك أحاسيس وانطباعات في حواس الإنسان في مجرى ممارسته العملية، وعندئذ يحدث في ذهن الإنسان تبدل مفاجئ (قفزة) في عملية المعرفة وتتكون المفاهيم. فعند ذلك لم تعد المفاهيم ظواهر الأشياء ولا جزئياتها ولا الروابط الخارجية التي تربط بينها، بل هي إدراك تام لجوهر الأشياء وكلياتها وروابطها الداخلية. إن المفهوم والإحساس لا يختلفان كمياً فحسب بل كيفياً أيضاً. وإذا مضى الإنسان على هذا النحو واستخدم طريقة الحكم والاستدلال استطاع أن يتوصل إلى استنتاجات تتفق مع المنطق. إن عبارة "قطب حاجبيه فتفتق ذهنه عن حيلة" التي نقرأها في "قصة الممالك الثلاث"(3)، و"التفكير" في عبارة "دعني أفكر" في لغتنا المتداولة تعبران عن عملية الحكم والاستدلال التي يقوم بها الإنسان في عقله مستعيناً بالمفاهيم. وهذه هي المرحلة الثانية من المعرفة. إن السادة أعضاء الوفد الزائر، بعد أن يجمعوا معلومات مختلفة و "يفكروا فيها"، يستطيعون أن يتوصلوا إلى الحكم التالي: "إن سياسة الجبهة الوطنية المتحدة ضد اليابان التي يدعو إليها الحزب الشيوعي هي سياسة حازمة وصادقة وحقيقية". وبعد التوصل إلى هذا الحكم يمكنهم، إذا كانوا مخلصين كذلك للوحدة من أجل إنقاذ الوطن، أن يتقدموا خطوة أخرى ويصلوا إلى هذه النتيجة: "إن في استطاعة الجبهة الوطنية المتحدة ضد اليابان أن تتكلل بالنجاح." إن مرحلة تكوين المفاهيم والحكم والاستدلال هي مرحلة أكثر أهمية في كل عملية المعرفة البشرية بشيء ما، وهي مرحلة المعرفة العقلية. إن المهمة الحقيقية للمعرفة تكمن في التقدم إلى التفكير عن طريق الإحساس وإلى الإدراك التدريجي للتناقضات الكامنة في داخل الأشياء الموضوعية ولقوانينها والروابط الداخلية التي تربط بين عملية وأخرى، أي التوصل إلى المعرفة المنطقية. دعوني أكرر: إن السبب في اختلاف المعرفة المنطقية عن المعرفة الحسية يعود إلى أن المعرفة الحسية تتعلق بجزئيات الأشياء وظواهرها وروابطها الخارجية، في حين أن المعرفة المنطقية تتقدم بالمعرفة الحسية خطوة كبيرة إلى الأمام فتتوصل إلى إدراك كليات الأشياء وجوهرها وروابطها الداخلية وتكتشف التناقضات الكامنة في العالم الخارجي، وبهذا فإن المعرفة المنطقية تتمكن من تفهم تطور العالم الخارجي في مجموعه وفي الروابط الداخلية بين جميع جوانبه.
إن هذه النظرية المادية الديالكتيكية عن عملية تطور المعرفة، التي تقوم على أساس الممارسة العملية، والقائلة بتطور المعرفة من معرفة سطحية إلى معرفة عميقة، لم يتوصل إليها أحد على هذا النحو قبل ظهور الماركسية. ولقد حلت نظرية المادية الماركسية لأول مرة هذه  المشكلة حلاً صحيحاً، إذ بينت بأسلوب مادي وديالكتيكي حركة تعمق المعرفة، حركة تقدم الإنسان، ككائن اجتماعي، من المعرفة الحسية إلى المعرفة المنطقية خلال ممارساته العملية المعقدة والمتكررة باستمرار في الإنتاج والصراع الطبقي. قال لينين: "إن تجريدات المادة وأحد قوانين الطبيعة والقيمة ..الخ، وباختصار كل تجريد علمي (صحيح وجدي وليس باطلاً)، ليعكس الطبيعة بصورة أعمق و أصدق وأكمل."(4)
إن الماركسية اللينينية ترى أن لكل من مرحلتي عملية المعرفة خصائصها، وهي أن المعرفة في مرحلتها الدنيا تتميز بأنها حسية، وفي مرحلتها العليا تتميز بأنها منطقية، ومع ذلك فكلتاهما مرحلة في عملية واحدة من المعرفة. إن الإحساس والعقل يختلفان من حيث الطبيعة ولكن لا ينفصل أحدهما عن الآخر، إنهما موحدان على أساس الممارسة العملية. إن ممارستنا العملية تثبت أن ما نحسه لا يمكن أن ندركه على الفور، وأن ما ندركه هو وحده الذي يمكن أن نحسه بصورة أعمق. إن الإحساس لا يحل سوى مسألة الظواهر، والنظرية وحدها تستطيع حل مسألة الجوهر. بيد أن هاتين المسألتين لا يمكن حلهما بأي حال من الأحوال بمعزل عن الممارسة العملية. فإذا أراد أي شخص أن يفهم أي شيء من الأشياء، فليس له من سبيل إلى ذلك سوى الاحتكاك بهذا الشيء، أي العيش (الممارسة العملية) في محيطه. فقد كان من المستحيل على المرء أن يدرك مقدماً قوانين المجتمع الرأسمالي وهو يعيش في المجتمع الإقطاعي، إذ أن الرأسمالية لم تكن قد ظهرت بعد، ولذلك فإن الممارسة العملية التي تتفق معها لم تكن قد وجدت أيضاً. إن الماركسية لا يمكن أن تظهر إلى الوجود إلا كنتاج للمجتمع الرأسمالي. ولم يكن بمقدور ماركس، في عصر الرأسمالية الحرة، أن يدرك مقدماً وبصورة محددة بعض القوانين الخاصة بعصر الإمبريالية، إذ أن الإمبريالية _آخر مراحل الرأسمالية_ لم تكن قد ظهرت بعد إلى حيز الوجود، وكذلك الممارسة العملية التي تتفق معها لم تكن قد ظهرت بعد، فكان في استطاعة لينين وستالين وحدهما الاضطلاع بهذه المهمة. إذا استثنينا شرط العبقرية فإن السبب الرئيسي في قدرة ماركس وانجلز ولينين وستالين على صياغة نظرياتهم يعود إلى مساهمتهم شخصياً في ممارسة الصراع الطبقي والتجربة العلمية في زمانهم. ولولا وجود هذا الشرط الأخير لما استطاع أي عبقري أن يحرز النجاح. إن القول السائر "يستطيع المثقف أن يعرف كل ما يجرى في العالم دون أن يتخطى عتبة داره"، كان في العصور القديمة المتأخرة تكنيكياً ليس إلا عبارة جوفاء بعيدة عن الواقع، أما في عصرنا المتطور تكنيكياً، فعلى الرغم من أن هذا القول قد يصبح حقيقة واقعة، إلا أن الذين يملكون المعرفة المباشرة الحقيقية هم من ينخرطون في الممارسة العملية من سكان العالم. يكتسب هؤلاء الناس "المعرفة" خلال ممارستهم العملية ثم تنقل إلى "المثقف" بواسطة الكتابة والوسائل التكنيكية، وعندئذ فقط يستطيع المثقف أن "يعرف كل ما يجري في العالم" بطريقة غير مباشرة. وإذا ما أردت أن تعرف بصورة مباشرة شيئاً من الأشياء أو عدة أشياء، فلابد لك أن تساهم شخصياً في النضال العملي الذي يهدف إلى تغيير الواقع _تغيير ذلك الشيء أو تلك الأشياء، وعندئذ تستطيع أن تحتك بظواهر ذلك الشيء أو تلك الأشياء، كما أنك لا تستطيع أن تكشف وتفهم جوهر ذلك الشيء أو تلك الأشياء إلا عن طريق المساهمة الشخصية في النضال العملي الذي يهدف إلى تغيير الواقع. هذه هي طريق المعرفة التي يسلكها كل امرئ بالفعل، غير أن بعض الناس يزعمون عكس ذلك عامدين إلى تشويه الأمور. وأكثر الناس مدعاة للسخرية هو "العالم" الذي ما أن يلتقط فتاتاً من المعرفة عن طريق السماع حتى يعتبر نفسه "العلامة الفريد في العالم"، وهو أمر لا يدل إلا على عجزه عن تقدير نفسه تقديراً صحيحاً. إن المعرفة هي مسألة علم، فلا يجوز أن يصاحبها أدنى شيء من الكذب والغرور، بل المطلوب هو العكس بكل تأكيد أي الصدق والتواضع. إذا أردت اكتساب المعرفة فلابد أن تشارك في الممارسة العملية التي تهدف إلى تغيير الواقع، فإذا رغبت في معرفة طعم الكمثرى فلابد أن تغير الكمثرى، أي تأكلها بنفسك، وإذا أردت أن تعرف تركيب الذرة وخصائصها فلابد أن تقوم بتجارب فيزيائية وكيميائية بغية تغيير حالة الذرة، وإذا أردت أن تعرف نظرية الثورة وطرائقها فلا بد أن تشترك في الثورة. إن جميع المعارف الحقة تنبع من التجربة المباشرة. ولكن يستحيل على المرء أن يجرب كل شيء تجربة مباشرة، والواقع أن معظم معارفنا قد حصلنا عليها من التجربة غير المباشرة، وأعني بها كل المعارف المكتسبة في العصور القديمة والبلدان الأجنبية. وهذه المعارف مكتسبة من التجربة المباشرة عند القدامى والأجانب فإذا كانوا اكتسبوها في مجرى تجربتهم المباشرة على نحو متفق مع شرط "التجريد العلمي" الذي تحدث عنه لينين وكانت تعكس الأشياء الموضوعية بصورة علمية، فهي معارف يركن إليها، وإلا فهي ليست كذلك. وهكذا فإن معرفة الإنسان لا تعدو هذه القسمين: التجربة المباشرة والتجربة غير المباشرة. وفضلاً عن ذلك فإن ما هو تجربة غير مباشرة عند شخص معين هو عند غيره تجربة مباشرة. وهكذا فإن المعرفة من أي نوع كانت، إذا اعتبرنا المعرفة ككل، لا يمكن أن تنفصل عن التجربة المباشرة. إن كل معرفة هي تنبع من إحساس الإنسان بالعالم الموضوعي بواسطة حواسه. ومن ينكر الإحساس وينكر التجربة المباشرة وينكر المساهمة الشخصية في الممارسة العملية الرامية إلى تغيير الواقع، فهو ليس بمادي. وهذا هو السبب في أن "العالم" يبعث على السخرية. وهناك مثل صيني قديم يقول: "كيف تستطيع أن تحصل على أشبال النمر إذا لم تدخل عرينه؟" وهذا القول يعتبر حقيقة تنطبق على الممارسة العملية التي يباشرها الإنسان، وكذلك على نظرية المعرفة،. فلا يمكن أن تكون هناك معرفة منعزلة عن الممارسة العملية.
وفي سبيل إيضاح حركة المعرفة المتفقة مع المادية الديالكتيكية والقائمة على أساس الممارسة العملية التي تهدف إلى تغيير الواقع _حركة التعمق المتدرج للمعرفة_ نقدم فيما يلي بضعة أمثلة محددة أخرى.
فيما يتعلق بمعرفة المجتمع الرأسمالي فإن البروليتاريا، خلال الفترة الأولى من ممارستها العملية_ فترة تخريب الآلات والنضال العفوي، كانت لا تزال في مرحلة المعرفة الحسية، إذ لم تكن قد عرفت سوى بعض الجوانب والروابط الخارجية لظواهر الرأسمالية. وفي ذلك الوقت كانت البروليتاريا لا تزال "طبقة في ذاتها". ولكن حينما بلغت هذه الطبقة الفترة الثانية من ممارستها العملية _فترة النضال الاقتصادي والنضال السياسي الواعيين والمنظمين، تمكنت من إدراك جوهر المجتمع الرأسمالي وعلاقات الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية ومهمة البروليتاريا التاريخية، بفضل ممارستها العملية وتجاربها المكتسبة في نضالات طويلة الأمد، وبفضل تثقفها بالنظرية الماركسية التي هي نتاج لما قام به ماركس وانجلز من تلخيص لهذه التجارب المتنوعة وفق أسلوب علمي، وعندئذ أصبحت هي "طبقة لذاتها".
وينطبق نفس الحال على معرفة الشعب الصيني بالامبريالية. فقد كانت المرحلة الأولى من معرفته بها مرحلة معرفة حسية وسطحية تجلت في نضالاته المنطلقة من كراهيته للأجانب دون تمييز كحركة مملكة التايبينغ السماوية وحركة يى خه توان وغيرهما من الحركات. ولم يبلغ الشعب الصيني مرحلة المعرفة العقلية إلا في المرحلة الثانية عندما اتضحت له مختلف التناقضات الداخلية والخارجية للامبريالية، وتجلت له حقيقة تحالف الإمبريالية مع الطبقة الكومبرادورية والطبقة الإقطاعية في الصين في سبيل امتصاص دماء الجماهير الغفيرة من الشعب الصيني. ولم تبدأ هذه المعرفة إلا أيام ما قبل حركة 4 مايو (أيار) 1919 (5)  وما بعدها.
ولننظر الآن إلى الحرب. إذا كان أولئك الذين يوجهون عمليات الحرب يفتقرون إلى الخبرة العسكرية فإنهم لن يفهموا في المرحلة البدائية القوانين المتسمة بالعمق والتي تتحكم في حرب معينة (مثل حرب الثورة الزراعية التي خضناها في السنوات العشر المنصرمة). فهم لا يمرون في المرحلة البدائية إلا بتجارب معارك عديدة بل ويتعرضون كثيراً للهزائم. ولكن هذه التجارب (تجارب المعارك الظافرة وعلى الأخص تجارب المعارك الخاسرة) سوف تمكنهم من أن يدركوا ما يكمن في تلك التجارب كلها ويتحكم فيها، أي قوانين تلك الحرب المعينة، ويفهموا ما يجب اتخاذه من إستراتيجية وتكتيك، وبالتالي يستطيعون أن يوجهوا هذه الحرب بقلوب مفعمة بالثقة. وإذا ما حل محلهم في مثل هذا الوقت أشخاص آخرون عديمو الخبرة لتوجيهها، فإنهم لن يستطيعوا هم الآخرون أن يفهموا القوانين الحقيقية للحرب إلا بعد ما يعانون عدداً من الهزائم (أي بعد ما يكتسبون خبرة).
كثيراً ما نسمع بعض الرفاق يقول حينما لا يجرؤ على قبول عمل يوكل إليه: "لا أملك الثقة". ولم لا يملك الثقة؟ لأنه لا يفهم مضمون هذا العمل وظروفه بصورة منتظمة، أو لأنه لم يحتك بهذا النوع من العمل مطلقاً أو لم يحتك به إلا قليلاً، وبالتالي فلا يستطيع التحدث عن القوانين التي تتحكم في هذا العمل. فإذا حللت له طبيعة العمل وظروفه تحليلاً مفصلاً فإنه سيكتسب نوعاً من الثقة ويرغب في القيام به. ثم إذا اكتسب هذا الشخص تجربة بشأن هذا العمل بعد أن قام به فترة من الزمن، وكان فضلاً عن ذلك يجهد في النظر إلى الأمور بدون تحيز أو تعصب، وليس ممن ينظرون إلى القضايا وفقاً لتصوراتهم الذاتية ومن زاوية واحدة وبصورة سطحية، فسوف يستطيع أن يستخلص بذاته النتائج بشأن كيفية القيام بعمله، وعندئذ ستزداد جرأته على العمل لدرجة كبيرة. إن الذين ينظرون إلى الأمور وفقاً لتصوراتهم الذاتية ومن زاوية واحدة وبصورة سطحية هم وحدهم الذين ما أن يصلوا إلى مكان ما حتى يتسرعوا، مستبدين بآرائهم، في إصدار الأوامر والتوجيهات حول أمر من الأمور دون أن ينظروا إلى الظروف المحيطة بذلك الأمر ولا إلى الأمر في مجموعه (أي إلى تاريخه ووضعه الراهن من جميع جوانبه)، وقبل أن يصلوا إلى جوهر الأمر (أي طبيعته والروابط الداخلية بينه وبين الأمور الأخرى)، إن أمثال هؤلاء لابد أن يتعثروا ويسقطوا.
وهكذا نجد أن الخطوة الأولى في عملية المعرفة هي الاحتكاك بالأشياء الموجودة في العالم الخارجي، وهذه هي مرحلة الإحساس. أما الخطوة الثانية فهي تجميع المعطيات الحسية وترتيبها وصهرها، وهذه هي مرحلة تكوين المفاهيم والحكم والاستدلال. ونحن لا نستطيع تكوين مفاهيم صائبة والتوصل إلى منطق سليم على أساس المعطيات الحسية إلا إذا كانت هذه المعطيات غنية جداً (ليست جزئية أو ناقصة) ومتفقة مع الواقع (ليست وهمية أو كاذبة).
وينبغي هنا أن نركز على نقطتين هامتين، فأولاهما قد ذكرت فيما سبق ولكن يجب تكرارها هنا، ألا وهي مسألة توقف المعرفة العقلية على المعرفة الحسية، فمن يحسب أنه يمكن للمعرفة العقلية ألا تنبع من المعرفة الحسية فهو مثالي. وفي تاريخ الفلسفة يوجد ما يدعى بـ"المذهب العقلي" الذي يعترف فقط بحقيقة العقل ولا يعترف بحقيقة التجربة إذ يعتبر أن العقل وحده يمكن الركون إليه، أما التجربة الحسية فلا يمكن الركون إليها. إن خطأ هذا المذهب يكمن في أنه قلب الحقائق رأساً على عقب. وكون  المعرفة العقلية يمكن الركون إليها يعود، على وجه التحديد، إلى أنها نابعة من الإدراك الحسي، وإلا لأصبحت ماء دون ينبوع أو شجرة دون جذور، شيئاً إنما نشأ في ذهنه بصورة عفوية، شيئاً لا يمكن الركون إليه. وإذا نظرنا إلى تسلسل عملية المعرفة وجدنا التجربة الحسية تأتي أولاً، والسبب في أننا نشدد على أهمية الممارسة العملية الاجتماعية في عملية المعرفة يعود بالضبط إلى أن الممارسة العملية الاجتماعية وحدها تمكن الإنسان من البدء في تحصيل المعرفة وتحصيل التجربة الحسية من العالم الموضوعي. أما المرء الذي ينفصل كلياً عن العالم الموضوعي مغمضاً عينيه وساداً أذنيه، فلا يمكن أن تكون لديه أية معرفة. إن المعرفة تبدأ مع التجربة وهذه هي المادية حول نظرية المعرفة.
أما النقطة الثانية فهي حاجة المعرفة إلى التعمق، أي حاجة المعرفة إلى التطور من المرحلة الحسية إلى مرحلة عقلية - هذا هو الديالكتيك حول نظرية المعرفة(6). فإذا ظن المرء أن المعرفة يمكن أن تتوقف عند المرحلة الحسية، وهي مرحلة دنيا، وأن المعرفة الحسية هي وحدها التي يعتمد عليها من دون المعرفة العقلية، فإن هذا يعني تكراراً لأخطاء "المذهب التجريبي" في الماضي. إن أخطاء هذه النظرية تكمن في عجزها عن فهم الحقيقة التالية: على الرغم من أن المعطيات الحسية تعكس بعض الحقائق في العالم الموضوعي (لا أتحدث هنا عن المذهب التجريبي المثالي الذي يقصر التجربة على ما يدعى بالتأمل الباطني)، إلا أنها مجرد معطيات جزئية وسطحية لا تعكس الأشياء بصورة كاملة، معطيات لا تعكس جوهر الأشياء. فلكي يعكس شيء بكامله ويعكس جوهره وقوانينه الباطنية، لا بد من صهر تلك المعطيات الحسية الغنية عن طريق التفكير باستبعاد ما هو قليل الأهمية منها واستخلاص ما هو عظيم النفع، ونبذ الكاذب منها وإبقاء الصحيح المعتمد عليه، ثم الربط بين هذه المعطيات والنفوذ من ظواهر الأشياء إلى دخائلها وخفاياها، وذلك لأجل تكوين مفاهيم ونظريات في شكل منسق، أي لابد من تحقيق قفزة من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية. وأن هذه المعرفة التي تم صهرها لم تصبح معرفة أكثر بعداً عن الواقع وأقل أهلية لأن يركن إليها، بل هي على نقيض ذلك إذ أن كل ما تم صهره خلال عملية المعرفة بصورة علمية وعلى أساس الممارسة العملية هو كما قال لينين، يعكس الواقع الموضوعي بصورة أعمق وأصدق وأكمل. أما أصحاب العمل الروتيني الضيقو التفكير فهم يتصرفون عكس ذلك، إذ أنهم يقدسون التجربة بينما يحتقرون النظرية، ونتيجة لهذا يعجزون عن إدراك العملية الموضوعية ككل فيفتقرون إلى الاتجاه الواضح والنظرة البعيدة المدى، ويرتضون بالنجاحات الوقتية والنظرات الضيقة. وإذا قام أمثال هؤلاء بتوجيه الثورة فسيقودونها إلى زقاق مسدود.
إن المعرفة العقلية تعتمد على المعرفة الحسية، والمعرفة الحسية في حاجة إلى التطور إلى معرفة عقلية، هذه هي النظرية المادية الديالكتيكية عن المعرفة. وفي مجال الفلسفة، يعجز كل من "المذهب العقلي" و "المذهب التجريبي" عن إدراك الصفة التاريخية أو الديالكتيكية للمعرفة، وعلى الرغم من أن كلا منهما يحتوي على جانب من الحقيقة (والمقصود هنا المذهب العقلي والمذهب التجريبي الماديان لا المثاليان)، فكلاهما خاطئ في مجال نظرية المعرفة في مجموعها. إن حركة تطور المعرفة من المرحلة الحسية إلى المرحلة العقلية هذه الحركة المتفقة مع المادية الديالكتيكية، تنطبق على عملية صغيرة من المعرفة (مثلاً معرفة شيء من الأشياء أو عمل من الأعمال)، وكذلك تنطبق على عملية كبيرة من المعرفة (مثلاً معرفة مجتمع من المجتمعات أو ثورة من الثورات).
بيد أن حركة المعرفة لا تتوقف عن هذا الحد. فإذا ما توقفت الحركة المادية الديالكتيكية الخاصة بالمعرفة عند المرحلة العقلية، فإنها لم تتناول من المشكلة إلا نصفها. وهي عند الفلسفة الماركسية لم تتناول إلا ذلك النصف الذي لا يتمتع بأهمية عظمى. إن الفلسفة الماركسية تعتبر أن المسألة البالغة الأهمية ليست في معرفة قوانين العالم الموضوعي وبالتالي في اكتساب القدرة على تفسيره، بل هي في استخدام هذه المعرفة في تبديل العالم بصورة فعالة. فالنظرية من وجهة النظر الماركسية هي مهمة، وتتجلى أهميتها في قول لينين: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية."(7) ولكن السبب في أن الماركسية تؤكد على أهمية النظرية يعود بالضبط، بل يعود فقط إلى أنها تستطيع توجيه العمل. فإذا كنا نملك نظرية صحيحة ونكتفي بأن نجعل منها موضوعاً لأحاديث لا طائل منها أو نضعها على الرف ولا نطبقها عملياً، فستصبح هذه النظرية، مهما كانت سديدة، عديمة الأهمية. إن المعرفة تبدأ من الممارسة العملية، والمعرفة النظرية التي يتم اكتسابها عن طريق الممارسة العملية، يجب أن تعاد إلى الممارسة العملية مرة أخرى. إن الدور الفعال للمعرفة لا يتجلى في القفزة الفعالة من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية فحسب، بل ينبغي أن يتجلى أيضاً – وهذا أكثر أهمية- في القفزة من المعرفة العقلية إلى الممارسة العملية الثورية. إن المعرفة التي تمكننا من استيعاب قوانين العالم يجب أن تعاد لتطبق في ممارسة الإنتاج وفي ممارسة الصراع الطبقي الثوري والنضال الوطني الثوري وكذلك في ممارسة التجارب العملية. هذه هي عملية اختبار النظرية وتطويرها، هي تكملة لعملية المعرفة. إن مسألة ما إذا كانت نظرية ما منطبقة مع الحقائق الموضوعية أو لا، لم تحل تماماً، ولا يمكن أن تحل تماماً، أثناء حركة تطور المعرفة من المرحلة الحسية إلى المرحلة العقلية التي تحدثنا عنها آنفاً. والطريقة الوحيدة لحل هذه المسألة حلاً تاماً هي إعادة المعرفة العقلية إلى الممارسة العملية الاجتماعية، وتطبيق النظرية على الممارسة العملية، لمعرفة ما إذا كانت هذه النظرية توصلنا إلى الهدف المنشود. إن كثيراً من نظريات العلوم الطبيعية تعتبر حقائق، ليس فقط لأنها اعتبرت هكذا عندما وضعها العلماء الطبيعيون، بل لأن الممارسة العملية العلمية دلت بعد ذلك على صحتها أيضاً. وكذلك تعتبر الماركسية اللينينية حقيقة، ليس فقط لأنها اعتبرت هكذا عندما صاغ تعاليمها ماركس وانجلز ولينين وستالين بطريقة علمية، بل كذلك لأن الممارسة العملية للصراع الطبقي الثوري والنضال الوطني الثوري قد أثبتت صحتها فيما بعد. إن المادية الديالكتيكية حقيقة عامة، ذلك لأنه ما من أحد يستطيع في ممارسته العملية الخروج عن إطارها. ويدلنا تاريخ المعرفة البشرية على أن كثيراً من النظريات كانت ناقصة إذا اعتبرت حقائق، بيد أن هذا النقص أصلح عن طريق اختبارها في الممارسة العملية. ولهذا السبب بالذات نقول أن الممارسة العملية هي مقياس الحقيقة، وأن "وجهة نظر الحياة والممارسة العملية، يجب أن تكون وجهة النظر الأولية والأساسية في نظرية المعرفة"(8). لقد أصاب ستالين عندما قال: "إن النظرية تصبح عديمة الهدف إذا لم ترتبط بالممارسة العملية الثورية، وكذلك شأن الممارسة العملية فإنها ستصبح ممارسة على غير هدى إذا لم تنر طريقها نظرية ثورية."(9)
فهل تكتمل حركة المعرفة عند هذا الحد؟ إن جوابنا هو الإيجاب والنفي. فحين يباشر أفراد المجتمع الممارسة العملية بهدف تغيير عملية موضوعية محددة (طبيعية كانت أم اجتماعية) في مرحلة معينة من تطورها، يستطيعون، نتيجة لانعكاس العملية الموضوعية في أذهانهم وبفعل فعاليتهم الذاتية، أن يدفعوا معرفتهم من المرحلة الحسية إلى المرحلة العقلية، وأن يكونوا أفكاراً ونظريات ويضعوا خططاً ومشاريع تتفق على وجه العموم مع قوانين تلك العملية الموضوعية، ثم يضعون هذه الأفكار والنظريات والخطط والمشاريع موضع التنفيذ في نفس العملية الموضوعية، فإذا نجحوا في تحقيق الأهداف المنشودة، أي إذا استطاعوا، أثناء الممارسة في نفس هذه العملية، أن يحولوا ما صاغوه سلفاً من الأفكار والنظريات والخطط والمشاريع إلى حقائق واقعة، أو استطاعوا ذلك بصورة عامة، يمكن عندئذ أن تعتبر حركة المعرفة مكتملة بالنسبة لهذه العملية المعينة. مثال ذلك انجاز مشروع هندسي أو إثبات افتراض علمي أو صنع آلة أو حصاد غلة زراعية في مجرى تغيير الطبيعة؛ وإنجاح إضراب أو انتصار حرب أو انجاز خطة تعليمية في مجرى تغيير المجتمع، وكل ذلك يمكن اعتباره تحقيقاً للأهداف المنشودة. ولكن يندر على وجه العموم أن تتحقق الأفكار والنظريات والخطط والمشاريع التي صاغها الناس سلفاً، دون أدنى تغيير، سواء أكان ذلك عند الممارسة العملية الرامية إلى تغيير الطبيعة أم تغيير المجتمع. والسبب في هذا يعود إلى أن الذين يباشرون تغيير الواقع يخضعون عادة لكثير من القيود، فهم مقيدون عادة لا بالإمكانيات العلمية والتكنيكية فحسب، بل هم مقيدون كذلك بدرجة تطور العملية الموضوعية وانكشافها (أي أن أوجه العملية الموضوعية وجوهرها لم تكشف بعد بصورة تامة). وفي مثل هذه الحال، كثيراً ما يحدث أن تعدل الأفكار والنظريات والخطط والمشاريع تعديلاً جزئياً بل تعديلاً كلياً في بعض الأوقات، وذلك بسبب اكتشاف الناس خلال الممارسة العملية أوضاعاً لم يتوقعوها سلفاً. وهذا يعني أن هناك حالات تتعارض فيها الأفكار والنظريات والخطط والمشاريع الأصلية مع الواقع جزئياً أو كلياً، وهي لذلك خاطئة جزئياً أو كلياً. ولا بد في كثير من الحالات أن يتكرر الإخفاق مرات عديدة قبل إمكان تصحيح الأخطاء في المعرفة وجعل هذه المعرفة تتفق مع قوانين العملية الموضوعية بحيث يمكن تحويل الشيء الذاتي إلى شيء موضوعي، أي تحقيق النتائج المنشودة خلال الممارسة العملية. وعلى كل حال فإن حركة معرفة الناس لعملية موضوعية محددة في مرحلة معينة من تطورها يمكن أن تعتبر مكتملة في هذا الوقت.
ولكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تقدم العملية فإن حركة معرفة الناس لا تكتمل عند هذا الحد. فكل عملية، سواء أكانت في الطبيعة أم في المجتمع، تتقدم وتتطور بفعل تناقضاتها الداخلية والصراعات الناتجة عنها، ولا بد لحركة المعرفة البشرية أن تتقدم وتتطور أيضاً وفقاً لذلك. وفيما يتعلق بالحركات الاجتماعية فإن يجب على القادة الثوريين الحقيقيين أن يحسنوا تصحيح أفكارهم ونظرياتهم وخططهم ومشاريعهم حين تبرز فيها الأخطاء، كما قلنا آنفاً، وليس هذا فحسب بل عليهم كذلك، كلما تقدمت عملية موضوعية معينة وتحولت من مرحلة إلى مرحلة أخرى من مراحل التطور، أن يقدروا على تمكين أنفسهم وجميع المشتركين في الثورة من التقدم والتحول في معرفتهم الذاتية وفقاً لذلك، أي يجب عليهم أن يضعوا مهمات ثورية جديدة وبرامج عمل جديدة وفقاً للتبدلات الجديدة التي تطرأ على الوضع. إن الوضع يتبدل سريعاً في الفترات الثورية، فإذا لم تتبدل معرفة الثوريين بسرعة وفقاً لذلك فلن يكون في استطاعتهم قيادة الثورة إلى النصر.
بيد أنه كثيراً ما يحدث أن يتخلف التفكير عن الواقع، والسبب في ذلك يعود إلى أن معرفة الإنسان مقيدة بظروف اجتماعية عديدة. إننا نعارض المتعنتين في صفوف الثورة، إذ أن تفكيرهم يعجز عن مجاراة تغيرات الظروف الموضوعية فأظهروا أنفسهم تاريخياً في صورة الانتهازية اليمينية. إن هؤلاء الناس لا يدركون أن صراع التناقضات قد دفع العملية الموضوعية إلى الأمام، فبقيت معرفتهم في مرحلتها القديمة. هذه هي الخاصية الملازمة لتفكير جميع المتعنتين. وبما أن تفكيرهم ينفصل عن الممارسة العملية الاجتماعية، فلا يمكنهم أن يتقدموا ليقودوا عجلة المجتمع، وكل ما يمكنهم عمله هو أن يتخلفوا وراء العجلة متذمرين من سرعتها الفائقة ومحاولين جرها إلى الوراء أو تحويلها في الاتجاه المعاكس.
ونحن نعارض كذلك ثرثرة "اليساريين" الفارغة. إذ أن تفكيرهم يتخطى المرحلة المعينة من مراحل تطور العملية الموضوعية، فيحسب بعضهم الأوهام التي يحملونها كأنها حقائق، وآخرون منهم يتكلفون في الوقت الحاضر تحقيق مثل أعلى لا يمكن أن يتحقق إلا في المستقبل، منعزلين عن الممارسة العملية الراهنة التي تباشرها غالبية الناس وعن الواقع الحالي، ويتجسد تفكيرهم هذا عملياً في صورة المغامرة.
إن المثالية والمادية الميكانيكية والانتهازية والمغامرة تتميز جميعها بفصل التفكير الذاتي عن الواقع الموضوعي، وفصل المعرفة عن الممارسة العملية. فلا يسع النظرية الماركسية اللينينية عن المعرفة التي تتميز بالممارسة الاجتماعية العلمية إلا أن تعارض هذه الإيديولوجيات الخاطئة معارضة حازمة. إن الماركسيين يعترفون بأن تطور كل عملية محددة ضمن نطاق عملية التطور العام المطلق للكون هو تطور نسبي، ولهذا فإن معرفة الناس بكل عملية محددة أثناء مرحلة معينة من التطور لا يمكن أن تكون سوى حقيقة نسبية في مجرى الحقيقة المطلقة اللامحدود. إن مجموع الحقائق النسبية التي لا حصر لها يشكل الحقيقة المطلقة(10). إن تطور العملية الموضوعية تطور مليء بالتناقضات والصراعات وكذلك شأن تطور حركة المعرفة البشرية. وإن جميع الحركات الديالكتيكية في العالم الموضوعي يمكن أن تنعكس عاجلاً أم آجلاً في المعرفة البشرية. ونظراً لأن عملية النشوء والتطور والفناء في الممارسة العملية الاجتماعية هي عملية لامتناهية، فإن عملية النشوء والتطور والفناء في المعرفة البشرية هي أيضاً كذلك. وبما أن الممارسة العملية التي يقوم بها الناس لتغيير الواقع الموضوعي وفقاً لأفكار ونظريات وخطط ومشاريع معينة هي في تقدم مستمر، فإن معرفتهم بالواقع الموضوعي تتعمق كذلك أكثر فأكثر. ونظراً لأن حركة التغيير في عالم الواقع الموضوعي لا تنتهي أبداً، فإن المعرفة التي يكتسبها الناس عن الحقيقة خلال ممارستهم العملية لا تنتهي أبداً كذلك. إن الماركسية اللينينية لم تختتم الحقيقة، بل إنها تشق دون توقف الطريق لمعرفة الحقيقة خلال الممارسة العملية. والنتيجة التي استخرجناها هي الوحدة التاريخية المحددة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين النظرية والممارسة العملية، بين المعرفة والعمل، وعليه فنحن نعارض كل الإيديولوجيات الخاطئة التي تنفصل عن التاريخ المحدد، "يسارية" كانت أم يمينية.
لقد وضع التاريخ، في المرحلة الراهنة من تطور المجتمع، على عاتق البروليتاريا وحزبها مسؤولية معرفة العالم معرفة صحيحة وتبديل العالم. وإن عملية ممارسة تبديل العالم هذه العملية التي تم تحديدها بناء على المعرفة العلمية قد بلغت في العالم وفي الصين على حد سواء، لحظة تاريخية عظيمة لم يشهدها تاريخ البشرية، لحظة ستبدد فيها البشرية تماماً الظلام الذي يخيم على العالم وعلى الصين وتحل محله عالماً وضاء لم ير التاريخ مثيلاً له. إن نضال البروليتاريا والشعوب الثورية من أجل تغيير العالم يتضمن انجاز المهمات التالية: تغيير العالم الموضوعي وفي الوقت نفسه تغيير عالمهم الذاتي – تغيير مقدرتهم على اكتساب المعرفة وتغيير العلاقات بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي. وقد بدأ تحقيق مثل هذا التغيير في جزء من الكرة الأرضية أي في الاتحاد السوفياتي. ولا يزال الشعب هناك يقوم بدفع عملية هذا التغيير إلى الأمام. أما الشعب الصيني وسائر شعوب العالم فهي بدورها تمر الآن، أو ستمر في المستقبل، بمثل هذه العملية. وهذا العالم الموضوعي الذي يجري تغييره يشتمل على جميع المعارضين لهذا التغيير الذين لابد أن يمروا بمرحلة من التغيير الإجباري قبل أن يدخلوا مرحلة التغيير الواعي. وعندما تبلغ البشرية جميعها مرحلة تغير فيها نفسها والعالم تغييراً واعياً، يكون العالم قد دخل عصر الشيوعية.
اكتشاف الحقيقة عن طريق الممارسة العملية، واثبات وتطوير الحقيقة عن طريق الممارسة العملية مرة ثانية. الانطلاق من المعرفة الحسية وتطويرها بصورة فعالة إلى المعرفة العقلية، ثم الانطلاق من المعرفة العقلية لتوجيه الممارسة العملية الثورية بصورة فعالة في سبيل تغيير العالم الذاتي والعالم الموضوعي. الممارسة العملية، ثم المعرفة، والعودة إلى الممارسة العملية ثانية، ثم المعرفة أيضاً، وهكذا تتكرر العملية إلى ما لا نهاية له، ومع كل دورة يرتفع مضمون الممارسة العملية والمعرفة إلى مستوى أعلى. هذه هي النظرية المادية الديالكتيكية عن المعرفة، وهذه هي النظرية المادية الديالكتيكية عن وحدة المعرفة والعمل.


ملاحظات
(1) لينين: "ملخص "علم المنطق" لهيجل".
(2) ماركس: "موضوعات عن فيورباخ"، ولينين: "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الفصل الثاني، المبحث السادس.
(3) "قصة الممالك الثلاث" هي قصة تاريخية صينية مشهورة كتبها لوه قوان تشونغ الذي عاش بين 1330 و 1400 على وجه التقريب – المعرب.
(4) لينين: "ملخص "علم المنطق" لهيجل".
(5) كانت حركة 4 مايو (أيار) حركة ثورية معادية للإمبريالية والإقطاعية، انفجرت في 4 مايو (أيار) 1919. في النصف الأول من ذلك العام، عقدت البلدان الإمبريالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان وإيطاليا وغيرها اجتماعاً في باريس لتقاسم الغنائم قررت فيه أن تستلم اليابان ما كانت ألمانيا تتمتع به من أنواع الامتيازات في مقاطعة شاندونغ الصينية. وكان طلبة بكين أول من أقاموا اجتماعات ومظاهرات في 4 مايو (أيار) حيث عبروا عن معارضتهم الحازمة لذلك القرار. ولجأت حكومة أمراء الحرب الشماليين إلى قمعهم فاعتقلت ثلاثين طالباً وأكثر، فهب طلبة بكين مضربين عن الدراسة احتجاجاً على ذلك، واستجاب لهم الطلبة في مختلف أنحاء البلاد. وفي 3 يونيو(حزيران)، بدأت حكومة أمراء الحرب الشماليين تقبض على الطلبة ببكين على نطاق أكبر، فبلغ عدد الذين ألقي القبض عليهم خلال يومين فقط حوالي ألف طالب، الأمر الذي أثار سخطاً أشد في طول البلاد وعرضها. وابتداء من 5 يونيو (حزيران)، أخذ العمال في شانغهاي ومدن كثيرة أخرى يضربون عن العمل وكذلك التجار. وهكذا تحولت الحركة الوطنية التي ساهم فيها المثقفون بصورة رئيسية في بداية الأمر تحولاً سريعاً إلى حركة وطنية اجتاحت البلاد كلها وساهمت فيها البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة والبرجوازية. ومع تقدم هذه الحركة، تطورت كذلك حركة الثقافة الجديدة التي بدأت قبل حركة 4 مايو (أيار) والرامية إلى مناهضة الإقطاعية والداعية إلى نشر العلم وإلى الديمقراطية، وتحولت إلى حركة ثقافية ثورية عارمة محتواها الرئيسي نشر الماركسية اللينينية – المعرب.
(6) "في سبيل المعرفة، يتوجب على المرء أن يبدأ معرفته ودراسته على أساس التجربة وأن يرتفع من التجربة إلى المعرفة العامة." انظر لينين: "ملخص "علم المنطق" لهيجل".                                                                               
(7) لينين: "ما العمل؟"، الفصل الأول، المبحث الرابع.   
(8)  لينين: "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الفصل الثاني، المبحث السادس. 
(9)  ستالين: "أسس اللينينية"، القسم الثالث. 
(10)  لينين: "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الفصل الثاني، المبحث الخامس.
المصدر: مؤلّفات ماوتسي تــونغ المختـارة، المجلّد الأوّل، دار النشر باللغات الأجنبية، بكين، 1968، ص. ص. 431-452.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق