
ماو تسي تونغ، حول الديمقراطية الجديدة. (الجزء الثالث)
10- مبادئ الشعب الثلاثة القديمة والجديدة
ليس عند المتعنتين البرجوازيين أي فهم على الإطلاق للتغير التاريخي، إن معرفتهم الضئيلة تكاد أن تكون في حكم العدم. فهم لا يعرفون أوجه الخلاف بين الشيوعية ومبادئ الشعب الثلاثة، ولا أوجه الخلاف بين مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة والقديمة.
نحن الشيوعيين نعترف ب "مبادئ الشعب الثلاثة كقاعدة سياسية للجبهة الوطنية المتحدة ضد اليابان" ونعلن بأنه "لمّا كانت مبادئ الشعب الثلاثة هي ما تحتاجه الصين في الوقت الحاضر، فإن حزبنا مستعد للنضال من أجل تحقيقها تحقيقا كاملا"، ونعترف بالتماثل الأساسي بين المنهاج الشيوعي الأدنى والأصول السياسية لمبادئ الشعب الثلاثة. و لكن من أيّ نوع مبادئ الشعب الثلاثة هذه ؟ إنها ليست سوى مبادئ الشعب الثلاثة التي أعاد الدكتور صون يات صن تفسيرها في "بيان المؤتمر الوطني الأول للكومينتانغ الصيني". وإني أرجو من السادة المتعنتين أن يتصفحوا هذا البيان أثناء نشوتهم بمباشرة أعمال "تقييد نشاط الحزب الشيوعي" و "إذابة الحزب الشيوعي" و"معارضة الحزب الشيوعي". لقد قال الدكتور صون يات صن في هذا البيان :"هذا هو التفسير الحقيقي لمبادئ الشعب الثلاثة التي يدعو إليها الكومنتانغ". وهذا يبين لنا أن مبادئ الشعب الثلاثة هذه هي وحدها الحقيقية، وكل ما عداها فهو مزيف . إن التفسير الوارد في "بيان المؤتمر الوطني الأول للكومنتانغ" هو وحده "التفسير الحقيقي" لمبادئ الشعب الثلاثة، وكل التفسيرات الأخرى مزيفة . يا ترى هل هذا أيضا أكذوبة لفقها الحزب الشيوعي ! لقد شهدت أنا شخصيا مع كثير من أعضاء الكومنتانغ إجازة المؤتمر لهذا البيان .
لقد جاء هذا البيان فاصلا بين الفترتين التاريخيتين لمبادئ الشعب الثلاثة. فقبل إجازة هذا البيان كانت هذه المبادئ هي مبادئ الشعب الثلاثة من نمط قديم، وهي مبادئ الشعب الثلاثة للثورة الديمقراطية البرجوازية القديمة في بلد شبه مستعمر، مبادئ الشعب الثلاثة للديمقراطية القديمة وبالتالي فهي مبادئ الشعب الثلاثة القديمة.
أمّا بعد إجازة البيان فقد أصبحت مبادئ الشعب الثلاثة هذه هي مبادئ الشعب الثلاثة من نمط جديد، أصبحت مبادئ الشعب الثلاثة للثورة الديمقراطية البرجوازية الجديدة في بلد شبه مستعمر، مبادئ الشعب الثلاثة للديمقراطية الجديدة وبالتالي فهي مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة. وإنّ هذه المبادئ وحدها هي مبادئ الشعب الثلاثة الثورية للفترة الجديدة.
إن مبادئ الشعب الثلاثة الثورية للفترة الجديدة، مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية، هي مبادئ الشعب الثلاثة التي تتضمن السياسات الكبرى الثلاث سياسات التحالف مع روسيا والتعاون مع الحزب الشيوعي وتقديم المساعدة إلى العمال والفلاحين. وسوف تكون مبادئ الشعب الثلاثة مزيفة أو ناقصة في الفترة الجديدة إذا ما خلت من هذه السياسات الكبرى الثلاث أو من أية واحدة منها .
أوّلا، يجب على مبادئ الشعب الثلاثة الثورية، مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية، أن تتضمن التحالف مع روسيا. إن الأوضاع القائمة في الوقت الحاضر تبين لنا بكل وضوح انه إذا لم تكن هناك سياسة للتحالف مع روسيا، ولا التحالف مع البلد الاشتراكي، فلا بد إذن من انتهاج سياسة التحالف مع الإمبريالية، ومن التحالف مع القوى الإمبريالية. أ فليس ذلك ما حدث على وجه الدقة بعد عام 1927؟ وحين يحتد النضال بين الاتحاد السوفياتي الاشتراكي والدول الإمبريالية، لن تجد الصين بدا من أن تنحاز الى هذا الجانب أو ذاك، وهذا اتجاه حتمي. فهل من الممكن أن تتجنب هذا الانحياز؟ كلاّ، ذلك وهم خالص . إذ أن كل قطر في العالم بأسره سينجرف إما إلى هذا الجانب أو إلى ذاك، ولن يكون "الحياد" في العالم مند الآن فصاعدا إلا كلمة خدّاعة. وينطبق هذا بصورة خاصة على الصين التي لن تجد أملا في انتزاع النصر النهائي بدون مساعدة الاتحاد السوفيتي، وهي تناضل دولة إمبريالية تغلغلت في أعماق أراضيها. وإذا لجأت إلى التحالف مع الإمبريالية بدلا من التحالف مع روسيا، فلا بد إذن من حذف كلمة "الثورية" من مبادئ الشعب الثلاثة التي ستؤول لذلك الى مبادئ رجعية. وفي التحليل النهائي، فإنه لا توجد مبادئ الشعب الثلاثة " الحيادية " وإنما توجد مبادئ الشعب الثلاثة الثورية أو المعادية للثورة. وإذا حاول المرء شن "نضال ضد الهجمات من الطرفين"(15) كما قال وانغ جينغ وي في الماضي، وحاول إيجاد نوع من مبادئ الشعب الثلاثة يخدم هذا "النضال" أ فلا يكون هذا العمل بطوليا ؟ ولكن مع الأسف أنّ وانغ جينغ وي الذي ابتكر مبادئ الشعب الثلاثة من ذلك النوع قد تخلى عنها هو نفسه (أو "طواها ")، وتبنّى الآن مبادئ الشعب الثلاثة التي تتضمن التحالف مع الإمبريالية. وإذا كان بعضهم يقول : إن الإمبريالية نوعان إمبريالية شرقية وإمبريالية غربية، وإنّ وانغ جينغ وي متحالف مع الإمبريالية الشرقية، وأنا، خلافا له، متحالف مع بعض الإمبرياليين الغربيين للهجوم على الشرق، أ فلا يكون هذا التصرف ثوريا أيضا ؟ ولكن الإمبرياليين الغربيين عازمون بأي حال من الأحوال على مناهضة الاتحاد السوفياتي والشيوعية، وإذا ما تحالفت معهم فسوف يطلبون منك أن تهاجم الشمال، وعندئذ يستحيل عليك القيام بالثورة. إنّ هذه الظروف جميعا تحتم على مبادئ الشعب الثلاثة الثورية، الجديدة أو الحقيقية، أن تتضمن التحالف مع روسيا، ولا يمكن على الإطلاق أن تتضمن التحالف مع الإمبريالية ضد روسيا.
ثانيا، يجب على مبادئ الشعب الثلاثة الثورية، مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية، أن تتضمن التعاون مع الحزب الشيوعي. فإذا أنت لا تتعاون مع الحزب الشيوعي فستعارضه لا محالة. ومعارضة الحزب الشيوعي هي سياسة الإمبرياليين اليابانيين و وانغ جينغ وي، وإذا كنت راغبا كذلك في معارضة الحزب الشيوعي، فذلك حسن جدّا، إذ سوف يدعونك للانضمام إلى شركتهم المناهضة للحزب الشيوعي. ولكن أ لا يثير ذلك شيئا من الشبهة بأنك خائن ؟ و ممّا يضحك أيضا ان تقول :" إنّي لا أتبع اليابان، بل بلدا آخر." لا يهمّنا أيّ بلد تتبعه، فإذا عارضت الحزب الشيوعي فأنت خائن، لأنك لم تعد تقاوم اليابان . وإذا قلت :"سوف أعارض الحزب الشيوعي بمفردي" فإنّ ذلك مجرد هراء . كيف يستطيع "الأبطال" في المستعمرة وشبه المستعمرة أن ينجزوا عملا مضادا للثورة على هذا القدر من الضخامة بدون الاعتماد على قوة الإمبريالية ؟ إن هذا الحزب الشيوعي لم يُقض عليه بالرغم من أنه قد حُرّكت جميع القوى الإمبريالية في العالم تقريبا لتناهضه طوال عشر سنوات، فكيف أصبح من الممكن فجأة في الوقت الحاضر أن تقضي عليه "بمفرك" ؟ وسمعت أن بعض الناس خارج منطقة الحدود يقولون : ان معارضة الحزب الشيوعي أمر حسن، ولكن لن يكتب لها النجاح إطلاقا." وإذا لم تكن هذه الملاحظة إشاعة، فإنّ نصفها خاطئ، فأين وجه "الحسن" في "معارضة الحزب الشيوعي" ؟ أمّا النصف الآخر فهو صحيح، لأنّه من المؤكد أنّ "معارضة الحزب الشيوعي" "لن يكتب لها النجاح " وأن السبب الأساسي في ذلك لا يرجع الى الحزب الشيوعي بالذات وإنّما يرجع إلى عامة الناس الذين يحبّون الحزب الشيوعي و لا يحبّون "معارضته". ولن يتسامح عامة الناس معك بل سيكسرون دماغك إذا عارضت الحزب الشيوعي في هذا الوقت الذي يتغلغل فيه عدو الأمّة في أعماق أراضينا. وتلك حقيقة مؤكدة تماما، فكل من يريد معارضة الحزب الشيوعي يجب أن يتهيأ لأن يُمزق شر تمزيق. وإذا كنت لا ترغب في هذا المصير، فمن الأحسن أن تقلع عن المعارضة. تلك هي نصيحتنا الصادقة لجميع أولئك "الأبطال" المعارضين للحزب الشيوعي. وهكذا فإنه واضح كل الوضوح أن مبادئ الشعب الثلاثة في يومنا يجب أن تتضمن التعاون مع الحزب الشيوعي، و إلاّ كان مصيرها الزّوال. تلك مسألة حياة أو موت بالنسبة الى مبادئ الشعب الثلاثة، وهي ستبقى إذا تضمّنت التعاون مع الحزب الشيوعي؛ وستزول إذا تضمنت معارضته . فهل يستطيع أحد أن يثبت النقيض لذلك ؟
ثالثا، يجب على مبادئ الشعب الثلاثة الثورية، مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية، أن تتضمن سياسة تقديم المساعدة إلى الفلاحين و العمال. والذين يرفضون هذه السياسة، ولا يقدمون المساعدة المخلصة الى الفلاحين والعمال، ويعرضون عن "استنهاض الجماهير الشعبية" الوارد في "وصية الدكتور صون يات صن"، هم في الحقيقة يمهدون السبيل لإخفاق الثورة، وإخفاقهم بالذات. لقد قال ستالين:"إنّ المسألة القومية هي، في جوهرها، مسألة الفلاحين."(16) وهذا يعني أن الثورة الصينية هي جوهريا ثورة الفلاحين، وأنّ المقاومة الحالية ضد اليابان هي جوهريا مقاومة الفلاحين ضد اليابان. إن سياسة الديمقراطية الجديدة تعني جوهريا منح السلطات للفلاحين. وإنّ مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية هي جوهريا مبادئ ثورة الفلاحين . كما أن الثقافة الجماهيرية تعني جوهريا رفع مستوى الفلاحين الثقافي . و إنّ حرب المقاومة ضد اليابان هي جوهريا حرب الفلاحين . إن اليوم يوم تطبيق "مبدأ الصعود الى الجبال"(17)، فالاجتماعات، والعمل، والدراسة، وإصدار الصحف، وتأليف الكتب، والتمثيل المسرحي، كلّ شيء يجري على الجبال، وكلّه من أجل الفلاحين جوهريا . و في الجوهر أن الفلاحين هم الذين يقدمون كل الأشياء التي تدعم المقاومة ضد اليابان والتي نستعين بها على الحياة. ونحن حين نقول "جوهريا" إنما نقصد أساسيا، دون أن نتجاهل فئات الشعب الأخرى، وهذا ما قد أوضحه ستالين نفسه. إنّ الفلاحين يشكلون 80 بالمائة من سكان الصين وهذا ما يعرفه كل تلميذ صغير. لذلك أصبحت مسألة الفلاحين المسألة الأساسية للثورة الصينية، وقوة الفلاحين هي القوة الرئيسية للثورة الصينية. ومن حيث العدد يحتل العمال بين سكان الصين المرتبة الثانية بعد الفلاحين. فيوجد في الصين عدة ملايين من العمال الصناعيين وعشرات ملايين من العمال الحرفيين والعمال الزراعيين . ولا يمكن للصين ان تحيا بدون عمالها في مختلف الصناعات، لأنهم المنتجون في القطاع الصناعي من اقتصادها. ولا يمكن للثورة أن تنتصر بدون الطبقة العاملة الصناعية الحديثة، لأنها قائدة الثورة الصينية وأكثر الطبقات ثورية. وفي هذه الظروف لا بد لمبادئ الشعب الثلاثة الثورية، مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة أو الحقيقية أن تتضمن سياسة تقديم المساعدة الى الفلاحين والعمال. وإذا كان ثمّة نوع آخر من مبادئ الشعب الثلاثة يفتقر الى هذه السياسة ولا يقدم المساعدة المخلصة الى الفلاحين والعمال ولا يقوم بـ "استنهاض الجماهير الشعبية" فسيكون مصيره، بكل تأكيد، الزّوال.
وهكذا يتضح أن مبادئ الشعب الثلاثة التي تنحرف عن السياسات الكبرى الثلاث : التحالف مع روسيا والتعاون مع الحزب الشيوعي وتقديم المساعدة الى الفلاحين والعمال، لا يرجى منها مستقبل . ومن واجب كل من له ضمير حي من أنصار مبادئ الشعب الثلاثة أن يأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار الجدي.
إنّ مبادئ الشعب الثلاثة المشتملة على السياسات الكبرى الثلاث، مبادئ الشعب الثلاثة الثورية، الجديدة أو الحقيقية، هي مبادئ الشعب الثلاثة الخاصة بالديمقراطية الجديد،ة وهي تطور لمبادئ الشعب الثلاثة القديمة، وهي مساهمة عظمى قدمها الدكتور صون يات صن ونتاج العصر الذي أصبحت الثورة الصينية فيه جزءا من الثورة العالمية الاشتراكية. إنّ مبادئ الشعب الثلاثة هذه هي وحدها التي يعتبرها الحزب الشيوعي الصيني "ما تحتاجه الصين في الوقت الحاضر"، ويعلن بأنّه "مستعد للنضال من أجل تحقيقها تحقيقا كاملا"ز وتلك هي مبادئ الشعب الثلاثة الوحيدة التي تتفق بصورة أساسية مع المنهاج السياسي للحزب الشيوعي الصيني في مرحلة الثورة الديمقراطية، أي مع منهاجه الأدنى.
أمّا مبادئ الشعب الثلاثة القديمة فكانت نتاجا للمرحلة القديمة من الثورة الصينية. وكانت روسيا في ذلك الحين دولة امبريالية، فمن الطبيعي أنّه كان لا يجوز انتهاج سياسة التحالف معها؛ ولم يكن في ذلك الحين حزب شيوعي في بلادنا، فمن الطبيعي أنّه لم يكن ثمة داعية الى انتهاج سياسة التعاون مع الحزب الشيوعي؛ كما لم تكن حركة العمال والفلاحين في ذلك الحين قد أظهرت كامل أهميتها السياسية وأثارت انتباه الناس، فمن الطبيعي أنه لم يكن ثمة سياسة التحالف معهم. وهكذا فإنّ مبادئ الشعب الثلاثة الخاصة بالفترة التي سبقت اعادة تنظيم الكومينتانغ في عام 1924 هي مبادئ الشعب الثلاثة من نمط قديم وقد فات أوانها. وما كان الكومينتانغ يستطيع التقدم الى الأمام إذا لم يطورها الى مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة. وقد أدرك الدكتور صون يات صن بذكائه هذه النقطة، فأعاد بمساعدة الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي الصيني تفسير مبادئ الشعب الثلاثة بحيث أضفى عليها الخصائص التاريخية الجديدة، وترتب على ذلك تشكيل الجبهة المتحدة بين مبادئ الشعب الثلاثة والشيوعية، وإقامة التعاون بيت الكومينتانغ والحزب الشيوعي لأول مرة وكسب عطف الشعب في أرجاء البلاد، والقيام بثورة 1924 –1927.
لقد كانت مبادئ الشعب الثلاثة القديمة ثورية في المرحلة القديمة، إذ أنها كانت تعكس الخصائص التاريخية لتلك المرحلة. ولكنّه إذا حاول المرء أن يرجع إلى ذلك الشيء القديم حتى في المرحلة الجديدة، بعد قيام مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة، وأن يعارض التحالف مع روسيا بعد قيام الدّولة الاشتراكية، أو يعارض التعاون مع الحزب الشيوعي بعد تأسيس الحزب الشيوعي، أو يعارض سياسة تقديم المساعدة الى الفلاحين والعمال بعد ما استيقظوا وأظهروا قوتهم السياسية الجبّارة، فإن محاولاته لن تكون سوى سلوك رجعي يعبر عن الجهل بتطورات الوضع. ولقد كانت الردة بعد عام 1927 نتاجا لذلك الجهل. ويقول المثل القديم :"من يدرك تطورات الوضع فهو إنسان عظيم". وإني لآمل أن يتذكر هذه العبارة أنصار مبادئ الشعب الثلاثة الحاليون.
إن مبادئ الشعب الثلاثة إذا ما كانت من نمط قديم فلن يكون هناك تماثل أساسي بينها وبين المنهاج الشيوعي الأدنى، لأنها تنتسب الى المرحلة القديمة وقد فات أوانها. وإذا كانت ثمة مبادئ شعب ثلاثة تناهض روسيا والحزب الشيوعي والفلاحين والعمال فإنها رجعية، وهي لا تحمل أدنى تماثل بينها وبين المنهاج الشيوعي الأدنى، بل هي عدو الشيوعية، فلا مجال عندئذ للحديث عن أي شيء. فيجب على أنصار مبادئ الشعب الثلاثة أن يمعنوا النظر في هذه الناحية أيضا.
و مهما يكن من أمر، فإنّ ذوي الضمائر الحية لن يتخلوا أبدا عن مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة إلى أن تتحقق بصورة أساسية مهمة مناهضة الإمبريالية والإقطاعية. إنما يتخلى عنها أمثال وانغ جينغ وي. رغم أنهم يطبقون بنشاط مبادئ الشعب الثلاثة المزيفة التي تناهض روسيا والحزب الشيوعي والفلاحين والعمال، إلاّ أنّه سيظهر بطبيعة الحال جماعة من ذوي الضمائر الحية ومحبي العدالة يواصلون تأييد مبادئ الشعب الثلاثة الحقيقية التي وضعها الدكتور صون يات صن. وإذا كان هناك كثير من أنصار مبادئ الشعب الثلاثة الحقيقية قد واصلوا النضال من أجل الثورة الصينية حتى بعد ردة عام 1927، فممّا لا شك فيه أنّ عدد أمثالهم سيتضاعف إلى ألوف الألوف في هذه الساعة التي قد تغلغل فيها عدو الأمة في أعماق أراضينا. وسوف نحافظ دائما نحن الشيوعيين على تعاوننا الطويل الأمد مع جميع أنصار مبادئ الشعب الثلاثة الصادقين، ولن ننبذ أيا من أصدقائنا باستثناء الخونة والمعادين للشيوعية الذين يصرون على موقفهم حتى الموت.
11- ثقافة الديمقراطية الجديدة
أوضحنا فيما سبق الخصائص التاريخية للسياسة الصينية في الفترة الجديدة ومسالة جمهورية الديمقراطية الجديدة. ويمكننا الآن أن ننتقل إلى بحث مسالة الثقافة.
إنّ كلّ ثقافة معيّنة هي انعكاس إيديولوجي لسياسة مجتمع معيّن واقتصاده. وتوجد في الصين ثقافة امبريالية هي انعكاس هي انعكاس للحكم الامبريالي، أو الحكم الامبريالي الجزئي في الصين في الميدانين السياسي والاقتصادي. والى جانب الهيئات الإدارية التي يديرها الإمبرياليون في الصين بصورة مباشرة، فإنّ هناك عددا من الصينيين ممّن لا يعرفون الخجل والحياء ينادون هم الآخرون بهذه الثقافة. وكلّ ثقافة تحمل إيديولوجية العبودية هي ثقافة من هذا النّوع. وتوجد في الصين أيضا ثقافة شبه إقطاعية تعكس السياسة والاقتصاد شبه الإقطاعيين، والذين يدعون إلى عبادة كونفوشيوس، ودراسة الكتب الكونفشيوسية، وينادون بالالتزام بالآداب والأخلاق القديمة والأفكار القديمة ويناهضون الثقافة الجديدة والأفكار الجديدة هم جميعا ممثّلو هذه الثقافة. فالثقافة الإمبريالية والثقافة شبه الإقطاعيّة هما شقيقتان متحابّتان شكّلتا تحالفا ثقافيّا رجعيّا ضدّ الثقافة الجديدة في الصّين، وهذان النّوعان من الثقافة الرّجعيّة يخدمان الإمبرياليّة والطّبقة الإقطاعيّة فينبغي القضاء عليهما. وما لم يتم القضاء عليهما يستحيل بناء ثقافة جديدة من أيّ نوع كان. إذ لا بناء بدون تدمير، ولا جريان بدون سدّ، ولا حركة بدون سكون، إنّ الصّراع الذي تلتحم فيه الثقافتان الجديدة والقديمة هو صراع حياة أو موت.
أمّا الثقافة الجديدة فهي انعكاس إيديولوجي للسياسة الجديدة والاقتصاد الجديد وهي كذلك في خدمتهما.
وكما عرضنا في القسم الثالث، فقد تغيرت طبيعة المجتمع الصيني بصورة تدريجية منذ نشوء الاقتصاد الرأسمالي في الصين، فلم يعد مجتمعا إقطاعيّا بكلّ معنى الكلمة، بل تحوّل إلى مجتمع شبه إقطاعيّ، مع أنّ الاقتصاد الإقطاعي لا يبرح غالبا فيه. وهذا الاقتصاد الرّأسمالي إذا ما قورن بالاقتصاد الإقطاعي، هو اقتصاد جديد. وإنّ القوى السياسية الجديدة التي نشأت ونمت مع هذا الاقتصاد الرأسمالي الجديد في آن واحد هي القوى السياسيّة للبرجوازية والبرجوازية الصغيرة والبروليتاريا. وإنّ ما يعكس هذه القوى الاقتصادية والسياسية الجديدة في الحقل الإيديولوجي ويخدمها هو الثقافة الجديدة. وبدون الاقتصاد الرّأسمالي وبدون البرجوازية والبرجوازية الصغيرة والبروليتاريا وبدون القوى السياسية لهذه الطبقات، يستحيل أن تنشأ الإيديولوجية الجديدة والثقافة الجديدة.
إنّ هذه القوى السياسية والاقتصادية والثقافية الجديدة هي جميعا قوى ثورية في الصين وهي تناهض السياسة القديمة والاقتصاد القديم والثقافة القديمة. وكلّ هذه الأشياء القديمة تتركّب من جزأين، أحدهما السياسة والاقتصاد والثقافة شبه الإقطاعية الخاصّة بالصّين، والآخر سياسة الإمبرياليّة واقتصادها وثقافتها، والجزء الأخير هو الذي يتزعّم التحالف القائم بين الجزأين. وإنّ كلا الجزأين ضارّ ينبغي تدميره بصورة تامّة. إنّ الصّراع بين الجديد والقديم في المجتمع الصيني هو عبارة عن صراع بين القوى الجديدة – قوى الجماهير الشعبيّة (الطّبقات الثوريّة المختلفة) وبين القوى القديمة – قوى الإمبرياليّة والطّبقة الإقطاعية، وبكلمة أخرى، هو صراع بين الثّورة والثّورة المضادّة. ولقد دام هذا الصّراع مائة سنة كاملة اعتبارا من حرب الأفيون، أو حوالي ثلاثين سنة اعتبارا من ثورة 1911.
ولكن الثورات يمكن أن تصنّف هي الأخرى، كما قلنا سابقا، إلى قديمة وجديدة، وما هو جديد في مرحلة تاريخيّة معيّنة يصبح قديما في مرحلة تاريخية أخرى. وإنّ القرن الذي استغرقته الثورة الديمقراطية البرجوازية في الصين ينقسم إلى مرحلتين رئيسيتين، أولاهما تبلغ ثمانين عاما والثانية عشرين عاما. ولكلّ من هاتين المرحلتين خاصيّة تاريخيّة أساسية: فالثورة الديمقراطية البرجوازية في الصين كانت متميزة بمفهومها القديم في السّنوات الثمانين الأولى؛ ثمّ أصبحت متميّزة بمفهومها الجديد في السّنوات العشرين الأخيرة، بفعل التبدّل الطّارئ على الوضع السياسي الدّولي والدّاخلي. إنّ الدّيمقراطية القديمة هي خاصيّة السنوات الثمانين الأولى، والديمقراطية الجديدة هي خاصية السنوات العشرين الأخيرة. وهذا الفرق ينطبق على الثقافة مثلما ينطبق على السياسة.
كيف يتجلّى هذا الفرق في ميدان الثقافة ؟ هذا ما سنوضّحه في ما يلي.
12- الخصائص التاريخية للثورة الثقافية في الصين
إنّ مرحلة ما قبل حركة 4 مايو (أيار) ومرحلة ما بعدها تشكّلان مرحلتين تاريخيتين مختلفتين للجبهة الثقافية أو الإيديولوجيّة في الصين.
قبل حركة 4 مايو (أيار)، كان الصراع على الجبهة الثقافية في الصين صراعا بين الثقافة الجديدة للبرجوازية والثقافة القديمة للطبقة الإقطاعية. وكانت الصراعات وقتذاك بين نظام المدرسة الحديثة ونظام الامتحانات الامبراطورية(18)، بين العلوم الحديثة والعلوم القديمة، بين العلوم الغربية والعلوم الصينية، تتّصف جميعها بطابع ذلك الصّراع. وإنّ ما يسمّى بالمدارس الحديثة والعلوم الحديثة والعلوم الغربية في ذلك الحين كانت تتركّز بصورة أساسية (ونعني "بصورة أساسية" أنّه ما زالت تشوبها بقايا فاسدة من الإقطاعية الصينية) على العلوم الطبيعية والنظريات السياسية – الاجتماعية البرجوازية التي كان ممثّلو البرجوازية يحتاجون إليها. ولقد لعبت إيديولوجية العلوم الحديثة هذه في ذلك الحين دورا ثوريا في النضال ضدّ الإيديولوجية الإقطاعيّة في الصين وهي في خدمة الثورة الديمقراطية البرجوازية الصينية للمرحلة القديمة. ولكن نتيجة عجز البرجوازية الصينية ودخول العالم عصر الإمبريالية بالفعل، فإنّ هذه الإيديولوجية البرجوازية لم تستطع الصّمود إلا بضع جولات في الصّراع مع التحالف الرّجعي القائم بين إيديولوجيّة العبودية للإمبريالية الأجنبيّة وإيديولوجيّة العودة إلى القديم للإقطاعيّة الصينية فانهزمت أمامه. وما كاد هذا التحالف الإيديولوجي الرّجعي يشنّ هجوما مضادّا بسيطا على ما يسمّى بالعلوم الحديثة حتّى طوت راياتها وأسكتت طبولها واعلنت تراجعها محافظة على هيكلها مع فقدان روحها الحيّة. وبما أنّ الثقافة الديمقراطية البرجوازية القديمة قد تفسّخت ووهنت في عصر الإمبريالية فلا مفرّ لها من الإخفاق.
ولكن منذ حركة 4 مايو (أيار) لم تعد الحال كما كانت عليه. فقد نشأت في الصين قوة ثقافية جديدة كلّ الجدّة، أ لا وهي الثقافة أو الإيديولوجيّة الشيوعيّة التي يقودها الشيوعيون الصينيون أي المفهوم الشيوعي عن العالم ونظرية الثورة الاجتماعية. لقد حدثت حركة 4 مايو (أيار) في عام 1919، وتأسس الحزب الشيوعي الصيني وابتدأت الحركة العمالية الصينية بصورة حقيقية في عام 1921 – هذه الأحداث وقعت جميعها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر، أي حين ظهرت القضية القومية والحركات الثورية في المستعمرات بمظهر جديد في مختلف أرجاء العالم، ومن هنا نجد الرّابطة بين الثورة الصينية والثورة العالمية في غاية الوضوح. وبفضل دخول القوّة السياسيّة الجديدة – البروليتاريا الصينية والحزب الشيوعي الصيني إلى الحلبة السياسية الصينية، استطاعت هذه القوّة الثقافية الجديدة، وهي في زيّ جديد وبأسلحة حديثة ومتّحدة مع جميع الحلفاء الذين يمكن الاتّحاد معهم، أن ترصّ صفوفها وتشنّ هجمات بطولية على الثقافة الإمبريالية والثقافة الإقطاعية. ولقد اكتسبت هذه القوّة الجديدة تطوّرا كبيرا جدّا في حقل العلوم الاجتماعيّة وحقل الآداب والفنون، بما في ذلك الفلسفة والعلوم الاقتصادية والعلوم السياسية والعلوم العسكرية و التاريخ والأدب والفن (بما فيه المسرحية والسينما والموسيقى والنحت والرسم). وخلال العشرين سنة الماضية فإنّ هذه القوّة الثقافية الجديدة، أينما وجّهت هجومها، حقّقت ثورة كبرى في المضمون الإيديولوجي وفي الشكل (اللّغة المكتوبة وغيرها) على حدّ سواء، وكانت جبّارة الصّدى عظيمة الجبروت لا تُقهر حيثما توجّهت. وقد عبّأت الجماهير على نطاق واسع لا مثيل له في تاريخ الصين. وكان لو شيون هو الرّجل الأعظم والأشجع الذي حمل لواء هذه القوة الثقافية الجديدة. إنّ لو شيون هو القائد الرئيسي للثورة الثقافية الصينية، فهو لم يكن أديبا عظيما فحسب، بل كلن مفكرا كبيرا وثوريّا عظيما كذلك. كما كان أكثر الرّجال صلابة وثباتا، وأبعدهم عن التملّق والتذلّل، وهذه هي صفة رفيعة لا تُقدّر بثمن عند شعوب المستعمرات وشبه المستعمرات. إنّ لو شيون الذي يمثّل الغالبيّة العظمى من أبناء الأمّة بأسرها على الجبهة الثقافية، هو أكثر الأبطال الوطنيين صوابا وبسالة وحزما وإخلاصا وحماسا في الاقتحام والانقضاض على العدوّ، وبطل فريد منقطع النّظير في تاريخنا. والاتّجاه الذي كان يتّبعه لو شيون هو اتّجاه الثقافة الجديدة للأمّة الصّينيّة.
لقد كانت الثقافة الجديدة الصينية، قبل حركة 4 مايو (أيار)، ثقافة تحمل صفة الديمقراطية القديمة، وهي جزء من الثورة الثقافية الرأسمالية البرجوازية العالمية. بيد أنها أصبحت، منذ حركة 4 مايو (أيار)، ثقافة تحمل صفة الديمقراطية الجديدة وجزءا من الثورة الثقافية الاشتراكية للبروليتاريا العالمية.
قبل حركة 4 مايو (أيار)، كانت الحركة الثقافية الجديدة والثورة الثقافية في الصين تجري تحت قيادة البرجوازية التي كانت لا تبرح تلعب دورا قياديا. ولكن بعد حركة 4 مايو (أيار) أصبحت ثقافة أو إيديولوجية هذه الطبقة أكثر تخلّفا من سياستها، ولم يعد في مقدورها أن تلعب أيّ دور قيادي، وأقصى ما تستطيعه أن تخدم إلى حدود معينة كحليف خلال الفترة الثوريّة، أمّا مسؤولية قيادة التحالف فلا بدّ أن تقع على كاهل ثقافة أو إيديولوجيّة البروليتاريا. هذه هي حقيقة دامغة ما من أحد يستطيع إنكارها.
إنّ ثقافة الديمقراطية الجديدة هي ثقافة الجماهير الشعبيّة المناهضة للإمبريالية والإقطاعية، وهي في الوقت الراهن ثقافة الجبهة المتّحدة ضدّ اليابان، ولا يمكن ان يوجّه هذه الثقافة سوى ثقافة أو إيديولوجية البروليتاريا أي الإيديولوجيا الشيوعية، أمّا الثقافة أو الإيديولوجية لأيّة طبقة أخرى فلا تستطيع أن تتولّى توجيهها. وبكلمة واحدة، فإنّ ثقافة الديمقراطية الجديدة هي ثقافة الجماهير الشعبيّة المناهضة للإمبريالية والإقطاعيّة والتي تقودها البروليتاريا.
13- الفترات الأربع
إنّ الثورة الثقافية انعكاس إيديولوجي للثورة السياسية والثورة الاقتصادية وهي تعمل على خدمتها. وتقوم في الصين جبهة متّحدة في الثورة الثقافية كما في الثورة السياسية.
وينقسم تاريخ الجبهة المتحدة في الثورة الثقافية خلال السنوات العشرين الأخيرة إلى أربع فترات. تشتمل أولاها على السّنتين من 1919 إلى 1921، والثانية على السنوات الست من 1921 إلى 1927، والثالثة على السنوات العشر من 1927 إلى 1937، والرابعة على السنوات الثلاث من 1937 حتّى الوقت الرّاهن.
وقد امتدّت الفترة الأولى من حركة 4 مايو (أيار) 1919 حتّى تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في عام 1921، وكانت حركة 4 مايو معلما رئيسيا في هذه الثورة.
لقد كانت حركة 4 مايو (أيار) حركة مناهضة للإمبريالية ومناهضة للإقطاعيّة. وإنّ مغزاها التاريخي البارز يكمن في أنّها كانت ترتدي طابعا لم تتمتّع به ثورة 1911، ألا وهو معارضتها بصورة كاملة وبدون أدنى مساومة للإمبريالية والإقطاعية على حدّ سواء. والسبب في تحلّي حركة 4 مايو (أيار) بهذا الطابع يعود إلى أنّ الاقتصاد الرأسمالي الصيني في ذلك الوقت قد خطى خطوة أخرى إلى الأمام، وأنّ المثقفين الثوريين الصينيين قد رأوا وقتذاك أملا جديدا في تحرّر الأمّة الصينية حين شاهدوا انهيار ثلاث دول إمبريالية كبرى هي روسيا وألمانيا والنمسا، والضعف الذي أصاب دولتين إمبرياليتين كبيرتين هما بريطانيا وفرنسا، ووجدوا انّ البروليتاريا الروسية أقامت دولة اشتراكية، وأنّ البروليتاريا الألمانية والنّمسوية (المجرية) والإيطالية تقوم بالثورة. لقد قامت حركة 4 مايو (أيار) استجابة لنداء الثورة العالمية في يومها ولنداء الثورة الروسية ونداء لينين، وهي تشكل جزءا من الثورة العالمية البروليتارية في ذلك الحين. وعلى الرّغم من أنّ الحزب الشيوعي الصيني لم يظهر إلى الوجود بعد في أيام حركة 4 مايو (أيار)، فقد كان ثمة أعداد كبيرة من المثقفين كانوا يؤيّدون الثورة الروسية ويملكون أبجديات من الإيديولوجية الشيوعية. وكانت حركة 4 مايو (أيار)، في بدايتها، حركة ثورية للجبهة المتحدة المتألفة من ثلاث فئات من الناس هم المثقفون الشيوعيون والمثقفون الثوريون من البرجوازية الصغيرة والمثقفون البرجوازيون (وهؤلاء الأخيرون يشكلون الجناح اليميني في الحركة). وكانت نقطة الضّعف في هذه الحركة هو اقتصارها على المثقفين، من دون أن ينضمّ إليها العمّال والفلاّحون. ولكنّها حين تطوّرت إلى حركة 3 يونيو (حزيران)(19) انضمّت إليها جماهير البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة والبرجوازية فضلا عن المثقفين، فأصبحت حركة ثورية على نطاق البلاد. وكانت الثورة الثقافية التي باشرتها حركة 4 مايو (أيار) هي حركة تناهض الثقافة الإقطاعية بصورة كاملة، ولم يعرف التاريخ الصيني منذ فجره مثل هذه الثورة الثقافية العظيمة والكاملة. وكان مأثرة عظيمة لهذه الثورة الثقافية أنّها رفعت عاليا في ذلك الحين رايتين كبيرتين راية مناهضة الأخلاق القديمة ونشر الأخلاق الجديدة وراية مناهضة الأدب القديم ونشر الأدب الجديد. ومع ذلك فما كان يمكن في ذلك الحين أن تنتشر هذه الحركة الثقافية بين الجماهير العمّالية والفلاحية. وقد طرحت الحركة شعار "الأدب من أجل عامّة النّاس"، ولكن المقصود بـ "عامّة الناس" في ذلك الحين لم يكن في حقيقة الأمر سوى مثقفي البرجوازية الصغيرة في المدن والبرجوازية، أي المثقفين في المدن. وإنّ حركة 4 مايو (أيار) قد عبّدت، في ناحيتي الإيديولوجية والكوادر، الطريق لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921 وكذلك لحركة 30 مايو (أيار) والحملة الشمالية. وإنّ المثقفين البرجوازيين الذين كانوا يمثلون الجناح اليميني في حركة 4 مايو (أيار)، قد تهادن معظمهم مع العدو في الفترة الثانية من الثورة الثقافية ووقفوا إلى جانب القوى الرجعية.
وفي الفترة الثانية التي كانت أهمّ معالمها تأسيس الحزب الشيوعي الصيني وحركة 30 مايو (أيار) والحملة الشمالية، فإنّ الجبهة المتّحدة التي تشكّلت في حركة 4 مايو (أيار) وتضمّ الطبقات الثلاث، قد بقيت وتطوّرت واجتذبت إلى صفوفها طبقة الفلاحين، ومن ثم تشكّلت جبهة متّحدة من هذه الطبقات على الصعيد السياسيّ كانت أوّل مثال عن التعاون بين الكومينتانغ والحزب الشيوعي. إنّ عظمة الدكتور صون يات صن لا تبدو في أنّه قاد ثورة 1911 العظيمة (على الرّغم من أنّها كانت ثورة ديمقراطية من الفترة القديمة) فحسب، بل كذلك في أنّه استطاع ان "يتكيّف مع التيارات العالميّة ويستجيب لحاجات الجماهير"، فطرح السياسات الكبرى الثلاث الثوريّة: التحالف مع روسيا والتعاون مع الحزب الشيوعي وتقديم المساعدة إلى الفلاحين والعمّال، وأعطى تفسيرا جديدا لمبادئ الشعب الثلاثة، ووضع بذلك مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة ذات السياسات الكبرى الثلاث. وقبل ذلك لم تكن لمبادئ الشعب الثلاثة روابط وثيقة مع أوساط المعلمين والأكاديميين والشبيبة، وذلك لأنّها لم تطرح أيّ شعار ضدّ الإمبريالية ولا ضدّ النظام الاجتماعي الإقطاعي والثقافة أو الإيديولوجية الإقطاعية. وكانت هي مبادئ الشعب الثلاثة القديمة التي كانت تعتبر راية مؤقتة يسعى بها فريق من الناس إلى الاستيلاء على السلطة الحكومية، وبتعبير آخر يسعون إلى الحصول على المناصب العالية، وتعتبر راية تستخدم لإجراء المناورات السياسية المحضة. أمّا بعد ذلك فقد جاءت مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة ذات السياسات الكبرى الثلاث. وبفضل التعاون بين الكومينتانغ والحزب الشيوعي والجهود المشتركة التي بذلها الأعضاء الثوريون في كلا الحزبين، نشرت مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة هذه في مختلف أرجاء الصين، نشرت بين قسم من أوساط المعلّمين والأكاديميين وبين جماهير الشبيبة الطلابية الغفيرة. وكان الفضل في ذلك يعود كلّه إلى انّ مبادئ الشعب الثلاثة الأصليّة قد تطوّرت حتّى أصبحت مبادئ الشعب الثلاثة للديمقراطية الجديدة والمناهضة للإمبريالية والإقطاعية وذات السياسات الكبرى الثلاث؛ ولولا هذا التطوّر لكان من المحال نشر أفكار مبادئ الشعب الثلاثة.
وفي هذه الفترة ، أصبحت مبادئ الشعب الثلاثة الثوريّة هذه القاعدة السياسية للجبهة المتحدة بين الكومينتانغ و الحزب الشيوعي، وكذلك بين جميع الطبقات الثورية، ولمّا كانت "الشيوعية هي الصّديق الحميم لمبادئ الشعب الثلاثة"، فقد تشكّلت جبهة متّحدة بين المذهبين. وكانت هذه الجبهة، إذا نظرنا إليها من زاوية الطبقات الاجتماعية، جبهة متّحدة بين البروليتاريا وطبقة الفلاّحين والبرجوازية الصغيرة في المدن والبرجوازية. وقد استخدم الحزبان حينذاك صحيفة الحزب الشيوعي الأسبوعية "الدّليل"، وصحيفة الكومينتانغ "جريدة الجمهورية" اليومية الصادرة في شانغهاي وصحفا أخرى في أقاليم مختلفة كقواعد لهما، حيث قاما بصورة مشتركة بالدعاية حول مسألة مناهضة الإمبريالية، وكافحا بصورة مشتركة التعليم الإقطاعي القائم على أساس عيادة كونفوشيوس ودراسة الكتب الكونفوشيوسية، وعارضا معارضة مشتركة الأدب القديم واللغة الكلاسيكية اللّذين يتبعان الأسلوب الإقطاعي القديم، وشجّعا الأدب الجديد والأسلوب الشعبي في الكتابة ذا المضمون المعادي للإمبريالية والإقطاعية. وقد أصلحا قوات الصين المسلّحة بتلقينها الأفكار المناهضة للإمبريالية والإقطاعيّة، وذلك خلال حرب قوانغدونغ وخلال الحملة الشمالية. كما طرحا بين الملايين والملايين من الفلاّحين هذين الشّعارين: ليسقط الموظفون الفاسدون وليسقط العتاة المحليون والوجهاء الأشرار، ممّا أدّى إلى نشوب نضالات ثورية فلاحية كبرى. وبفضل هذا كلّه وبفضل مساعدة الاتحاد السوفياتي انتصرت الحملة الشمالية. ولكن ما كادت البرجوازية الكبيرة تصعد إلى كراسي الحكم حتى وضعت حدّا لهذه الثورة ممّا أدّى بالوضع السياسي إلى مرحلة جديدة.
وكانت الفترة الثالثة هي الفترة الثورية الجديدة الممتدة ما بين 1927 و 1937. فمن جرّاء التبدّلات التي طرأت على المعسكر الثوري في نهاية الفترة السّابقة، إذ انتقلت البرجوازية الصينية الكبيرة إلى معسكر الإمبريالية والقوى الإقطاعية المضادّ للثورة، وتبعتها البرجوازية الوطنية، ولم يبق وقتذاك في المعسكر الثوري الذي كان في الأصل يشتمل على الطبقات الأربع إلاّ ثلاث منها وهي البروليتاريا وطبقة الفلاحين والفئات الأخرى من البرجوازية الصغيرة (بما فيها المثقفون الثوريون) – من جرّاء هذه التبدلات، كانت الثورة الصينية لا بدّ أن تدخل فترة جديدة كان الحزب الشيوعي الصيني فيها يقود الجماهير بمفرده في القيام بهذه الثورة. وكانت هذه الفترة فترة تشن فيها حملات "التطويق والإبادة" المضادّة للثورة من جهة، وتتعمّق فيها الثروة من جهة أخرى. وكان ثمّة نوعان من حملات "التطويق والإبادة" المضادّة للثورة: الحملة العسكريّة والحملة الثقافية، كما كان هناك نوعان من تعمّق الثورة: تعمّق الثورة في الرّيف وتعمّق الثّورة الثقافية. ولقد جنّدت القوى المضادّة للثورة في جميع أرجاء البلاد وفي العالم بأسره، بتحريض من الإمبرياليين، من اجل شنّ كلا النّوعين من حملات "التطويق والإبادة" التي استمرّت مدّة عشر سنوات والتي لم يشهد التاريخ شبيها لفظاعتها. إذ ذُبح فيها مئات الألوف من الشيوعيين والطلاب الشباب كما تعرّض فيها الملايين من العمّال والفلاّحين للتنكيل والاضطهاد. وكان يبدو في نظر المسؤولين عن هذه الجرائم أنّ الشيوعية والحزب الشيوعي سوف "يُستأصلان بصورة تامّة" بالتأكيد. ولكن كانت حصيلة الأمر على العكس من ذلك، إذ أخفق كلا النّوعين من حملات "التطويق والإبادة" بصورة منكرة. وكانت نتيجة حملة "التطويق والإبادة" العسكريّة أن زحف الجيش الأحمر نحو الشمال من أجل مقاومة اليابان؛ وكانت نتيجة حملة "التطويق والإبادة" الثقافية هي اندلاع حركة 9 ديسمبر (كانون الأوّل) الثوريّة للشبيبة عام 1935، أمّا النتيجة التي أدّت لها كلتا الحملتين معا فهي يقظة الشعب كلّه. وكانت هذه النتائج الثلاث نتائج إيجابية. وكان أكثر ما يبعث على الدّهشة في هذا كلّه هو انّ حملة "التطويق والإبادة" الثقافية فشلت فشلا ذريعا أيضا في مناطق الكومينتانغ، على الرّغم من أنّ الحزب الشيوعي كان في وضع لا يملك معه أيّة قدرة على المقاومة في جميع المؤسسات الثقافية في تلك المناطق. كيف حدث ذلك ؟ أ فلا يحملنا هذا على التفكير الطّويل والعميق ؟ وفي وسط هذه الحملات أصبح لو شيون، الذي كان يؤمن بالشيوعية، عملاقا للثورة الثقافية الصينيّة.
وكانت النتيجة السلبية لحملات "التطويق والإبادة" المضادّة للثورة أن غزت الإمبريالية اليابانية بلادنا. وذلك هو السبب الرئيسي في أنّ الشّعب كلّه لا يزال حتّى اليوم يُكنّ حقدا بالغا جدّا على تلك الحملة المعادية للحزب الشيوعي والتي دامت عشرة أعوام.
وخلال النضالات التي جرت في هذه الفترة، تمسّك الجانب الثوري بحزم بالديمقراطية الجديدة ومبادئ الشعب الثلاثة الجديدة، الخاصّة بالجماهير الشعبية العريضة والمناهضة للإمبريالية والإقطاعية، في حين فرض الجانب المضادّ للثورة الحكم الاستبدادي للتحالف بين طبقة ملاك الأراضي والبرجوازية الكبيرة الواقع تحت توجيه الإمبريالية. ولقد قضى ذلك الحكم الاستبدادي في كلّ من الصعيد السياسي والثقافي على السياسات الكبرى الثلاث، قضى على مبادئ الشعب الثلاثة الجديدة التي وضعها الدكتور صون يات صن، ممّا عرّض الأمّة الصينية لبلايا فظيعة.
وإنّ الفترة الرّابعة هي فترة حرب المقاومة الحالية ضدّ اليابان. وفي مجرى الثورة الصينية المتعرّج، ظهرت جبهة متّحدة أخرى متألّفة من الطّبقات الأربع، بيد أنّ هذه الجبهة أوسع مدى من سابقتها، إذ أنّ الفئة العليا فيها تشمل أعضاء كثيرين من الطبقات الحاكمة، والفئة الوسطى تشمل البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة، والفئة الدنيا تشمل البروليتاريا بكاملها، بحيث أنّ طبقات الأمّة وفئاتها المختلفة أصبحت أعضاء في التحالف الذي يقاوم الإمبريالية اليابانية بصورة حازمة. ولقد استمرّت المرحلة الأولى من هذه الفترة حتّى سقوط ووهان، وكان يسود البلاد في هذه المرحلة جوّ من الحماس والحيويّة في مختلف الميادين، فقد ظهر اتّجاه نحو الدّيمقراطية في المجال السياسي، ونمت التّعبئة الثقافية على نطاق أوسع. وبدأت المرحلة الثانية مع سقوط ووهان، وطرأت على الوضع السياسي خلالها تبدّلات عديدة، فاستسلمت فئة من البرجوازية الكبيرة للعدوّ، بينما الفئة الأخرى تتوق إلى إنهاء حرب المقاومة في اقرب وقت. ففي المجال الثقافي انعكس هذا الوضع في النشاطات الرجعية التي قام بها يه تشينغ(20) وتشانغ جيون ماي وآخرون، وفي مصادرة حريّة الكلام والنّشر.
وفي سبيل التخلّص من هذه الأزمة، ينبغي خوض نضال حازم ضدّ سائر الأفكار المناهضة لحرب المقاومة والوحدة والتقدم، ولا رجاء في انتصار حرب المقاومة ما لم تُقتلع هذه الأفكار الرّجعيّة. كيف سينتهي هذا النضال ؟ إنّ هذا السؤال الكبير يدور في أذهان جميع أفراد الشعب. إذا ما أخذنا الوضع الداخلي والدولي بعين الاعتبار، نقتنع بأنّ الشعب الصيني سينتصر بالتّأكيد، مهما كثرت الصعوبات التي تعترض طريق المقاومة. إنّ مدى التقدّم الذي تحقّق خلال السنوات العشرين منذ حركة 4 مايو (أيار) لا يتجاوز مدى التقدم الذي تحقق خلال السنوات الثمانين السابقة لها فحسب، بل يتجاوز بصورة فعلية مدى ما تحقق من تقدّم خلال آلاف السنين في العهود التاريخية الصينية. وعلى ضوء ذلك، أ فلا نستطيع أن نتصوّر مدى التقدم اللاّحق الذي ستحققه الصين خلال عشرين سنة أخرى؟ إنّ التصرّفات المسعورة لسائر القوى الظالمة، الداخلية والأجنبية، قد جرّت على أمّتنا الكوارث، بيد أنّ هذه التصرّفات المسعورة نفسها لم توضّح لنا أنّ هذه القوى الظالمة لا تزال تتمتّع ببعض القوّة فحسب، بل تثبت كذلك أنّها تصارع الموت، وأنّ الجماهير الشعبية تقترب من النّصر بصورة تدريجية. وهذه الحقيقة تنطبق على الصين، وكذلك على الشّرق كلّه والعالم بأسره.
14- انحرافات حول مسألة طبيعة الثقافة
كلّ جديد يصلب عوده أثناء الصّراع القاسي المرير. وهذا ينطبق أيضا على الثقافة الجديدة التي اتّبعت مجرى متعرّجا يشتمل على ثلاثة انعطافات في السنوات العشرين المنصرمة التي انكشف خلالها الصالح والطّالح على حدّ سواء باختبار النضال.
يقف المتعنتون البرجوازيون موقفا خاطئا تماما من مسالة الثقافة وهو نفس موقفهم من مسالة السلطة السياسية. فهم لا يفهمون الخصائص التاريخية لهذه الفترة الجديدة في الصين، كما لا يعترفون بثقافة الديمقراطية الجديدة للجماهير الشعبية. بل إنّ نقطة انطلاقهم هي الحكم الاستبدادي البرجوازي الذي يتمثّل، في مجال الثقافة، في الحكم الاستبدادي الثقافي البرجوازي. هناك جزء (أقصد جزءا فقط) ممّن يدعون بالمثقفين من المدرسة الأوروبية الأمريكية(21)، كانوا يؤيدون بالفعل حملة "إبادة الحزب الشيوعي" التي شنّتها حكومة الكومينتانغ في الجبهة الثقافية في الماضي، ويبدو في الوقت الحاضر أنّهم يؤيّدون أيضا سياسة "تقييد نشاط الحزب الشيوعي" و "إذابة الحزب الشيوعي". إنّهم لا يريدون أن يرفع العمّال والفلاّحون رؤوسهم سياسيا وثقافيا. إنّ طريق الحكم الاستبدادي الثقافي هذا الذي يتبعه المتعنّتون البرجوازيون هو طريق مسدود، إذ أنّه، شأنه شأن طريقهم المتّبع في مسألة السلطة السياسية، يفتقر إلى الشروط اللازمة الداخلية والدولية. وبالتالي فإنّه من الأفضل لهذا الحكم الاستبدادي الثقافي أن "يُطوى" هو الآخر.
وفيما يتعلّق بالمبدأ العام لثقافتنا الوطنية، فإنّ الإيديولوجية الشيوعية هي التي تلعب فيها الدّور القيادي، فينبغي لنا أن نبذل جهودا كبيرة في سبيل الدعاية للاشتراكية والشيوعية في صفوف الطبقة العاملة، وأن نعمل على تثقيف الفلاحين وفئات الجماهير الأخرى بروح الاشتراكية بصورة مناسبة ومخططة. ومهما يكن من أمر، فأنّ ثقافتنا الوطنية بمجموعها لم تصبح ثقافة اشتراكية حتّى هذا الوقت.
إنّ سياسة الديمقراطية الجديدة واقتصادها وثقافتها، نظرا لخضوعها لقيادة البروليتاريا، تشتمل جميعا على عنصر اشتراكي، وهو ليس عنصرا عاديا وإنّما هو عنصر حاسم. ولكن إذا نظرنا إلى الوضع بمجموعه وجدنا أنّ السياسة والاقتصاد والثقافة هذه جميعا لم تكن اشتراكية بعد وإنّما هي من نمط الديمقراطية الجديدة. ذلك لأنّ الثورة الصينية في مرحلتها الحالية ليست ثورة اشتراكية تستهدف الإطاحة بالرّأسمالية، بل هي ثورة ديمقراطية برجوازية مهمّتها الأساسية هي محاربة الإمبريالية الأجنبية والإقطاعية الداخلية. وفي مجال الثقافة الوطنية، فإنّه من الخطأ اعتبار أنّ الثقافة الوطنية لحالية بكليتها ثقافة وطنية اشتراكية أو يجب أن تكون كذلك، لأنّ معنى ذلك الخلط بين نشر الإيديولوجية الشيوعية وبين التطبيق العملي لبرنامج العمل الراهن، والخلط بين تطبيق الموقف الشيوعي والطريقة الشيوعية في النظر إلى القضايا والقيام بالأبحاث ومعالجة العمل وتدريب الكوادر وبين المبدأ العام للتعليم الوطني والثقافة الوطنية في مرحلة الثورة الديمقراطية الصينية. إنّ ثقافة وطنية ذات مضمون اشتراكي لا بدّ أن تكون ثقافة تعكس السياسة الاشتراكية والاقتصاد الاشتراكي. وطالما كانت ثمة عناصر اشتراكية في سياستنا واقتصادنا فلا بد أن تنعكس هذه العناصر الاشتراكية في ثقافتنا الوطنية؛ ولكننا إذا نظرنا إلى مجتمعنا ككل وجدنا أننا لم نملك بعد سياسة اشتراكية كاملة ولا اقتصادا اشتراكيا كاملا، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك ثقافة وطنية اشتراكية كاملة. ولمّا كانت الثورة الصينية الحالية جزءا من الثورة الاشتراكية البروليتارية العالمية، فإنّ الثقافة الجديدة للصين في الوقت الرّاهن هي أيضا جزء من الثقافة الجديدة الاشتراكية للبروليتاريا العالمية وحليف عظيم لها؛ وبالرّغم من أنّ هذا الجزء يحتوي على عناصر حيوية من الثقافة الاشتراكية، إلاّ أنّه، إذا نظرنا إلى الثقافة الوطنية ككلّ، لا ينضمّ إلى أسرة الثقافة الاشتراكية للبروليتاريا العالمية بوصفه ثقافة اشتراكية كاملة، بل بوصفه ثقافة الديمقراطية الجديدة الخاصة بالجماهير الشعبية العريضة والمناهضة للإمبريالية والإقطاعية. وبما أنّ الثورة الصينية اليوم لا يمكن أن تستغني عن قيادة البروليتاريا الصينية، فإنّ الثقافة الجديدة للصين اليوم لا تستطيع أيضا أن تستغني عن قيادة الثقافة أو الإيديولوجية للبروليتاريا الصينية، أي عن قيادة الإيديولوجية الشيوعية. ولكن هذه القيادة تعني في المرحلة الحالية قيادة جماهير الشعب إلى تحقيق ثورة سياسية وثقافية ضدّ الإمبريالية والإقطاعية، وبالتالي فإنّ مضمون الثقافة الوطنية الجديدة بمجموعها لا يزال من مضمون الديمقراطية الجديدة، وليس من مضمون الاشتراكية.
والأمر الذي لا يتطرّق إليه الشكّ في الوقت الحاضر هو ضرورة توسيع نطاق الدّعاية حول الأفكار الشيوعية وبذل مزيد من الجهد في دراسة الماركسيّة اللّينينية، وإلاّ فإنّنا سوف نكون عاجزين عن قيادة الثورة الصينية قدما إلى المرحلة المقبلة – مرحلة الاشتراكية، بل سوف نكون عاجزين أيضا عن إرشاد الثورة الديمقراطية الحالية إلى النصر. ولكن يجب علينا أن نميّز بين نشر الإيديولوجية الشيوعية والنظام الاجتماعي الشيوعي وبين التطبيق العملي لبرنامج العمل للديمقراطية الجديدة، كما يجب علينا أن نميّز بين النظرية الشيوعية والطريقة الشيوعية في النظر إلى القضايا والقيام بالأبحاث ومعالجة العمل وتدريب الكوادر وبين مبدأ الديمقراطية الجديدة العام بشان الثقافة الوطنية بمجموعها. وممّا لا ريب فيه أنّ الخلط بين هذين الشّيئين غير ملائم البتة.
وهكذا يتبين أنّ مضمون الثقافة الوطنية الجديدة للصين في المرحلة الحالية ليس هو الحكم الاستبدادي الثقافي للبرجوازية ولا اشتراكية البروليتاريا الصّرفة، بل هو الديمقراطية الجديدة للجماهير الشعبية، والمناهضة للإمبريالية والإقطاعية، والخاضعة لقيادة الثقافة أو الإيديولوجية الاشتراكية للبروليتاريا.
15- ثقافة وطنية علمية جماهيرية
إنّ ثقافة الدّيمقراطية الجديدة هذه ثقافة وطنية تعارض الاضطهاد الامبريالي وتنادي بالمحافظة على كرامة الأمّة الصّينية واستقلالها. هذه الثقافة تخصّ أمّتنا، وتحمل خصائصنا الوطنية. ويجب عليها أن ترتبط الثقافة الاشتراكية وثقافة الدّيمقراطية الجديدة لسائر الأمم الأخرى، بحيث تتشرّب من بعضها البعض وتتبادل المساعدة لتتطوّر سويّا في سبيل تشكيل ثقافة جديدة للعالم، بيد أنّه لا يجوز على الإطلاق أن ترتبط بالثقافة الرّجعيّة الإمبريالية لأيّة أمّة من الأمم الأخرى، لأنّ ثقافتنا ثقافة وطنية ثوريّة. ينبغي للصين أن تأخذ، بقدر كبير، من الثقافة التقدمية الأجنبية في سبيل تغذية ثقافتها الخاصة، وهذا العمل كان بعيدا عن المطلوب في الماضي. علينا أن نأخذ كلّ ما هو ينفعنا اليوم ليس فقط من الثقافة الاشتراكيّة وثقافة الدّيمقراطية الجديدة في هذا العصر، بل من الثقافة القديمة للبلدان الأجنبية أيضا، مثلا من ثقافة البلدان الرّأسماليّة المختلفة في عهد حركة الاستنارة. ولكن لا يجوز لنا أبدا أن نلتهم هذه المواد الأجنبية كلّها بلا نقد، بل يجب أن نتناولها مثلما نتناول طعامنا–نمضغه بادئ الأمر، ثمّ نخضعه لعمل المعدة والأمعاء بعصاراتها ومفرزاتها حتّى يتحوّل إلى أغذية تمتصّ وفضلات تُطرح–وعن هذا الطّريق فقط يُغذّي الطّعام أجسامنا. إنّ وجهة النّظر التي تنادي بـ "التقليد الشامل للغرب"(22) هي خاطئة. إنّ تناول المواد الأجنبية بصورة آلية قد سبّب للصين في الماضي أضرارا فادحة. ويجب على الشيوعيين الصينيين كذلك، حين يطبّقون الماركسية في الصين، أن يربطوا بصورة كاملة وملائمة بين الحقائق العامة للماركسية والممارسة الواقعية للثورة الصينية، وبتعبير آخر، فإنّ الحقائق العامة للماركسيّة لن تكون نافعة إلاّ إذا امتزجت بخصائص الأمّة وارتدت شكلا وطنيا محدّدا، ولا يجوز في أيّ حال من الأحوال تطبيقها بناءا على التصورات الذاتية وباعتبارها معادلات جاهزة. إنّ الماركسيين العقائديين لا يفعلون سوى العبث بالماركسية والثورة الصينية، فلا مكان لهم في صفوف الثورة الصينية. يجب أن يكون للثقافة الصينية شكلها الخاص، شكلها الوطني الخاص. إنّ ثقافتنا الجديدة اليوم هي ثقافة تحمل الشكل الوطني ومضمون الديمقراطية الجديدة.
إنّ ثقافة الديمقراطية الجديدة هذه ثقافة علمية تعارض سائر الأفكار الإقطاعية والخرافية وتنادي بالبحث عن الحقيقة من الواقع، وبالالتزام بالحقيقة الموضوعية، كما تنادي بالوحدة بين النظرية والممارسة العملية. وعلى أساس هذه النقطة، يمكن للفكر العلمي للبروليتاريا الصينية ان يقيم جبهة متحدة ضد الإمبريالية والإقطاعية والخرافات مع أولئك الماديين والعلماء الطبيعيين من البرجوازية الصينية الذين ما زالت فيهم روح تقدمية؛ ولكن لا يمكنه في أي حال من الأحوال ان يقيم جبهة متحدة مع أية نزعة مثالية رجعية. ويجوز للشيوعيين، في ميدان العمل السياسي، ان يقيموا جبهة متحدة ضد الإمبريالية والإقطاعية مع بعض المثاليين وحتى مع بعض رجال الدين، ولكن لا يصح بتاتا ان يوافقوا على نزعتهم المثالية أو عقائدهم الدينية. لقد تكونت ثقافة قديمة رائعة في سياق الفترة المديدة للمجتمع الإقطاعي الصيني. فإنّ دراسة مجرى تطوّر هذه الثقافة القديمة وطرح شوائبها الإقطاعية مع امتصاص خلاصتها الديمقراطية، هو شرط ضروري لتطوير ثقافتنا الوطنية الجديدة وزيادة ثقتنا الوطنية بالذات؛ ولكنّه لا يجوز لنا مطلقا أن نقبل كلّ شيء بدون نقد، إنّه لمن اللاّزم أن نفصل ثقافة الشعب القديمة الرائعة التي تمتاز إلى حدّ ما بطابع ديمقراطي وثوري عن كلّ إنتاج متعفّن للطّبقة الحاكمة الإقطاعيّة القديمة. إنّ السياسة الجديدة الحالية للصين واقتصادها الجديد الحالي ينبعان نتيجة تطوّر سياستها القديمة واقتصادها القديم، كما انّ ثقافتها الجديدة الحالية تنبع نتيجة تطوّر ثقافتها القديمة، ولذا فعلينا أن نحترم تاريخنا ولا يجوز لنا ابدا أن نقطع تسلسله. ولكن نعني بهذا الاحترام أن نضع التاريخ في مكانه المحدّد بين العلوم، وأن نحترم تطوّره الدّيالكتيكي، وليس تمجيد الماضي على حساب الحاضر، أو امتداح أيّ سمّ إقطاعي. وفيما يتعلّق بالجماهير الشعبية والطلاب الشباب، فإنّ الأمر الرئيسي هو توجيههم بحيث يتطلّعون إلى الأمام وليس توجيههم ليلتفتوا إلى الخلف.
إنّ ثقافة الديمقراطية الجديدة هذه هي ثقافة جماهيرية وهي بالتالي ديمقراطية، وينبغي لها أن تخدم الجماهير الكادحة من العمال والفلاحين الذين يشكلون أكثر من 90 بالمائة من سكان بلادنا، وأن تصبح تدريجيا ثقافتهم الخاصة. علينا أن نميّز بين المعرفة المعطاة إلى الكوادر الثوريين والمعرفة المعطاة إلى الجماهير الثورية من حيث مستواهما وأن نربط بينهما في الوقت نفسه، كما علينا أن نميّز ونربط بين رفع المستوى والتعميم. إنّ الثقافة الثوريّة هي بالنسبة إلى جماهير الشعب الغفيرة سلاح ثوريّ جبّار، فهي تهيّئ التّربة إيديولوجيّا قبل قيام الثورة، وتشكّل في أثناء الثورة جبهة ضروريّة وهامّة من الجبهة الثوريّة العامّة. وإنّ المشتغلين الثوريين بالعمل الثقافي هم القادة على المستويات المختلفة في هذه الجبهة الثقافية. "لا حركة ثوريّة بدون نظريّة ثوريّة"(23)، من هنا نرى مدى أهميّة الحركة الثقافية الثورية بالنسبة إلى الحركة العملية الثورية. وإنّ كلتا الحركتين الثقافية والعملية هي حركة لجماهير. لذلك، فإنّ سائر المشتغلين التقدميين بالعمل الثقافي الذي لا يقترب من جماهير الشعب هو أشبه بـ "قائد بدون جيش"، ونيرانه لا يمكن أن نصرع العدوّ. وفي سبيل بلوغ هذا الغرض، لا بدّ من إصلاح اللّغة المكتوبة على ضوء الظّروف المحدّدة، كما لا بدّ أن تكون لغة المخاطبة قريبة من لغة جماهير الشعب، وذلك لأنّ الشعب – وهذا ما ينبغي إدراكه – هو الينبوع الذي لا ينضب لثقافتنا الثوريّة.
الثقافة الوطنية العلمية الجماهيرية تلك هي ثقافة الجماهير الشعبية المناهضة للإمبريالية والإقطاعيّة، ثقافة الدّيمقراطية الجديدة، الثقافة الجديدة للأمّة الصّينية.
إنّ سياسة الديمقراطية الجديدة واقتصادها وثقافتها هي التي تؤلّف جمهورية الديمقراطية الجديدة، جمهورية الصين التي ينطبق اسمها على واقعها، الصين الجديدة التي نريد أن نبنيها.
إنّ الصين الجديدة تنتصب أمام أعيننا، فلنستقبلها.
لقد تراءى صاري مركب الصين الجديدة في الأفق، فلنصفّق ترحيبا به.
فلنرفع أيدينا مستبشرين، فإنّ الصين الجديدة ملك لنا.
(15) "النّضال ضدّ الهجمات من الطّرفين"، هو عنوان مقالة كتبها وانغ جينغ وي بعد خيانته للثورة في عام 1927.
(16) قال ستالين في خطابه "حول المسألة القومية في يوغسلافيا" الذي ألقاه بتاريخ 30 مارس (أذار) 1925 أمام اللّجنة اليوغسلافية التابعة للّجنة التنفيذية للأممية الشيوعية:"... إنّ الفلاّحين بشكّلون الجيش الاساسي للحركة الوطنية، وبدون هذا الجيش من الفلاّحين لا يكون هناك ولا يمكن أن يكون هناك حركة وطنية قويّة... وهذا هو المقصود عندما نقول أنّ المسالة القومية، هي في جوهرها، مسألة الفلاحين".
(17) كان "مبدأ الصعود إلى الجبال" عبارة يسخر بها بعض أصحاب الجمود العقائدي داخل الحزب الشيوعي من الرفيق ماو تسي تونغ الذي أولى القواعد الثورية الريفية اهتماما بالغا. وهنا يستخدم الرفيق ماو تسي تونغ عبارتهم هذه لإيضاح الدور العظيم الذي تلعبه القواعد الثورية الريفية.
(18) إنّ "نظام المدرسة الحديثة" هو نظام التعليم المطبّق آنذاك تقليدا لما كان يطبق في البلدان الرأسمالية الأوروبية والامريكية. و "نظام الامتحانات الإمبراطورية" هو نظام الامتحانات الاقطاعي في الصين القديمة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، دعا المثقفون الصينيون المجددون إلى إلغاء نظام الامتحانات الامبراطورية وإنشاء المدارس الحديثة.
(19) دخلت حركة 4 مايو (أيار) 1919 الوطنية مرحلة جديدة في أوائل يونيو حزيران. ففي 3 يونيو، عقد طلاب بكين اجتماعات عامة وألقوا الخطب احتجاجا على القمع الذي يمارسه الجيش والبوليس، ثمّ أعلنوا الإضراب عن الدّراسة، وانتشرت على إثر ذلك إضرابات العمال والتجار في شانغهاي ونانكين وتيانجين وهانغتشو وووهان وجيوجيانغ وفي مقاطعتي شاندونغ وآنخوى. وهكذا أصبحت حركة 4 مايو (أيار) حركة جماهيرية واسعة أسهمت فيها البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة في المدن والبرجوازية الوطنية.
(20) ارتد يه تشينغ عن الحزب الشيوعي وأصبح تروتسكيا، وفيما بعد عمل كحامل قلم مرتزق في مكتب مخابرات الكومينتانغ – المعرّب.
(21) المثقفون من المدرسة الأوروبية الأمريكية هم فريق من الناس يمثلهم خو شي وغيره.
(22) "التقليد الشامل للغرب" هو ما نادى به بعض العلماء البرجوازيين، وهم يمتدحون بلا حدود الثقافة البرجوازية الغربية التي نواتها النزعة الفردية والتي فات أوانها منذ زمن بعيد، ويدعون إلى أن تقتدي الصين في كلّ النواحي بالبلدان الرّأسمالية الأوروبية والأمريكية.
(23) مأخوذ من كتاب لينين: "ما العمل ؟ "، الفصل الأوّل، المبحث الرّابع.