8‏/10‏/2011

حول الديمقراطية الجديدة: الجزء الأوّل


ماو تسي تونغ، حول الديمقراطية الجديدة.

(يناير-كانون الثاني 1940)

(الجزء الأوّل)

1- إلى أين تتّجه الصّين ؟

منذ بداية حرب المقاومة، ساد بين جميع أبناء الشعب جوّ من الحيويّة الدّافقة، إذ اعتقدوا أنّهم قد وجدوا مخرجا من المأزق ففارقت سيماء اليأس والكآبة وجوههم. ولكن في الأيام الأخيرة اكفهرّ الجوّ فجأة من جديد بغبار المساومة والصّخب المعادي للحزب الشيوعي، ممّا ألقى بهم ثانية في بحر من الحيرة. وكان أوّل من تأثّر بذلك المثقفون والطلاّب الشبان الذين هم أشد الناس حساسية بالأحداث. فطُرح السؤال التالي مرّة أخرى: ما العمل ؟ وإلى أين تتّجه الصّين ؟ لذلك فلعلّ من المفيد، بمناسبة إصدار "الثقافة الصّينيّة"(1)، أن أوضّح اتّجاهات التطوّر السياسي والثقافي في الصّين. لست من المختصين بالشؤون الثقافية، ولكنّي أودّ دراستها ولم أبدأ ذلك إلاّ منذ وقت قريب. و من حسن الحظّ أنّ في يانان رفاقا عديدين قد كتبوا بإسهاب في هذا الحقل، أمّا بحثي هذا بخطوطه الأوّليّة فلنعتبره كقرع الأجراس الذي يسبق عرض المسرحيّة. وبالنسبة إلى العاملين الطليعيين في الحقل الثقافي قي جميع أرجاء البلاد، فإنّما نقدّم لهم بحوثنا كقرميد يُعرض لإغراء الغير إلى عرض جواهرهم أو كفكرة من جاهل قد يصيب مرّة واحدة، ونأمل أن يشاركونا في المناقشة للتوصّل إلى نتائج صحيحة تتجاوب مع حاجات أمّتنا. إنّ "البحث عن الحقيقة من الوقائع" هو الموقف العلمي، أمّا "استبداد المرء برأيه" و"انتحال الأستاذية" فهما موقفان متغطرسان لا يؤديان إطلاقا إلى حلّ أيّة مشكلة. إنّ المصائب والمحن التي تعانيها أمّتنا هي في غاية الشدّة، ولا يمكن أن يقود امّتنا إلى طريق التحرر إلاّ الموقف العلمي وروح تقدير المسؤولية. ليس هنالك سوى حقيقة واحدة، ولكن من الذي توصّل إليها فعلا فهذه مسألة لا يحدّدها التبجّح الذاتي بل تحدّدها الممارسة الموضوعيّة. فإنّ الممارسة الثوريّة للملايين والملايين من الشعب هي وحدها مقياس الحقيقة. وخذا ما يمكن اعتباره –فيما أعتقد- الموقف في إصدار "الثقافة الصينية".

2- نريد بناء صين جديدة

لم نناضل نحن الشيوعيين طوال سنوات عديدة من أجل الثورة السياسيّة والاقتصادية فحسب، وإنّما من أجل الثورة الثقافيّة أيضا؛ وجميع تلك النضالات تهدف إلى بناء مجتمع جديد ودولة جديدة للأمّة الصّينيّة. ولن يكون في هذا المجتمع الجديد وهذه الدولة الجديدة سياسة جديدة واقتصاد جديد فحسب، بل ثقافة جديدة أيضا. وبمعنى آخر، إنّنا لا نريد أن نحوّل الصين المضطهَدة سياسيا والمستثمَرة اقتصاديا إلى صين حرّة سياسيا ومزدهرة اقتصاديا وحسب، بل نريد كذلك أن نحوّل الصين الجاهلة والمتخلفة من جرّاء سيطرة الثقافة القديمة إلى صين متحضرة ومتقدمة في ظل الثقافة الجديدة. وباختصار، فإنّنا نريد بناء صين جديدة. إنّ هدفنا في المجال الثقافي هو بناء ثقافة جديدة للأمّة الصّينيّة.

3- خاصيّة الصين التّاريخيّة

نريد أن نبني ثقافة جديدة للأمّة الصّينية، لكن كيف تكون هذه الثقافة الجديدة بالضّبط؟

إنّ كلّ ثقافة معيّنة (بوصفها شكلا إيديولوجيّا) هي انعكاس لسياسة مجتمع معيّن واقتصاده، ولكنّها بالمقابل تترك أثرا ومفعولا عظيمين في هذه السياسة وذلك الاقتصاد؛ إنّ الاقتصاد هو القاعدة، والسياسة هي التعبير المركّز عن الاقتصاد(2). هذه وجهة نظرنا الأساسيّة في علاقة الثقافة بالسياسة والاقتصاد، وفي علاقة السياسة بالاقتصاد. وتبعا لذلك فإنّ الشكل الثقافي المعيّن يتقرّر أوّلا بالشّكل السياسي والاقتصادي المعيّن، ثمّ بعد ذلك فقط يترك أثره ومفعوله في ذلك الشكل السياسي والاقتصادي المعيّن. وقال ماركس في هذا الصّدد: "ليست أفكار الإنسان هي التي تقرّر وجوده، بل على العكس، إنّ وجوده الاجتماعي هو الذي يقرّر أفكاره."(3) وقال أيضا: "لم يفعل الفلاسفة حتّى اليوم سوى تفسير العالم تفسيرات مختلفة، ولكن المهمّ هو تبديل العالم."(4) إنّ هذا التعريف تعريف علميّ قد حلّ، بصورة مضبوطة ولأوّل مرّة في التاريخ البشري، مسالة العلاقة بين الأفكار والوجود، وهو وجهة النظر الأساسية للنظريّة الثوريّة الفعّالة حول المعرفة بوصفها انعكاسا للواقع والتي أوضحها لينين بعمق فيما بعد. ويجب ألاّ تغيب عن بالنا وجهة النظر الأساسيّة هذه حين نناقش مساء الصين الثقافيّة.

وهكذا اتّضح تماما أنّ العناصر الرّجعيّة في الثقافة القديمة للأمّة الصينيّة، التي نسعى إلى القضاء عليها لا تنفصل عن السياسة القديمة والاقتصاد القديم للأمّة الصينيّة، في حين أنّ الثقافة الجديدة للأمّة الصينيّة، التي نريد بناءها لا تنفصل هي الأخرى عن السياسة الجديدة والاقتصاد الجديد للأمّة الصينيّة. إنّ السياسة والاقتصاد القديمين للأمّة الصينيّة يشكّلان أساس ثقافتها القديمة؛ كما أنّ سياستها واقتصادها الجديدين سوف يشكّلان أساس ثقافتها الجديدة.

فماذا يُقصد بالسياسة القديمة وبالاقتصاد القديم للأمّة الصينية؟ وماذا يُقصد أيضا بثقافتها القديمة؟

لقد كان المجتمع الصيني، منذ عهد أسرتي تشو وتشين، مجتمعا إقطاعيّا، فكانت سياسته إقطاعيّة، واقتصاده إقطاعيا، كما أنّ ثقافته السائدة التي تعكس هذه السياسة وذلك الاقتصاد كانت إقطاعية أيضا.

ومنذ أن غزت الرأسماليّة الأجنبيّة بلاد الصين ونمت العناصر الرأسماليّة في المجتمع الصيني تدريجيّا، تحوّلت الصين شيئا فشيئا إلى مجتمع مستعمَر وشبه مستعمَر وشبه إقطاعي. إنّ الصين اليوم مجتمع مستعمَر في المناطق التي يحتلّها اليابانيون، أمّا في المناطق التي يحكم فيها الكومينتانغ، فهي لا تزال على وجه أساسيّ مجتمعا شبه مستعمَر أيضا؛ ولكنّها، سواءً أ كانت في هذه المناطق أم تلك، مجتمع يسوده النظام الإقطاعيّ وشبه الإقطاعيّ. تلك هي طبيعة المجتمع الصيني الحالي، والوضع الذي تعيشه الصين اليوم. إنّ السياسة والاقتصاد اللّذين يسودان هذا المجتمع هما سياسة واقتصاد يتصفان بالصفة المستعمَرة وشبه المستعمرة وشبه الإقطاعيّة، كما انّ الثقافة السائدة التي تعكس هذه السياسة وذلك الاقتصاد هي كذلك ثقافة مستعمَرة وشبه مستعمرَة وشبه إقطاعيّة.

إنّ ثورتنا موجّهة على وجه الدقّة ضدّ هذه الأشكال السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. إنّ ما نريد القضاء عليه بالضبط السياسة القديمة والاقتصاد القديم للصين المستعمَرة وشبه المستعمَرة وشبه الإقطاعية والثقافة القديمة العاملة في خدمتهما. وما نريد بناءه هو على نقيض ذلك تماما، أي سياسة جديدة واقتصاد جديد وثقافة جديدة للأمّة الصينيّة.

إذن ما هي السياسة الجديدة والاقتصاد الجديد للأمة الصينيّة؟ وما هي ثقافتها الجديدة؟

إنّ الثورة الصينية لا بدّ أن تمرّ في مجراها التاريخي بخطوتين، الخطوة الأولى هي الثورة الديمقراطية، والخطوة الثانية عي الثورة الاشتراكيّة، وهما عمليتان ثوريتان مختلفتان من حيث طبيعتهما. والديمقراطية هنا ليست الديمقراطية المنتسبة إلى مفهومها القديم، فهي ليست الديمقراطية القديمة وإنّما ديمقراطية بمفهومها الجديد، فهي الديمقراطية الجديدة.

وهكذا يمكننا أن نؤكّد أنّ السياسة الجديدة للأمة الصينية هي سياسة الديمقراطية الجديدة، وأنّ اقتصادها الجديد هو اقتصاد الديمقراطية الجديدة، وأنّ ثقافتها الجديدة هي ثقافة الديمقراطية الجديدة.

تلك هي الخاصية التاريخيّة للثورة الصينية في الوقت الرّاهن. وإنّ كلّ حزب سياسي أو جماعة سياسية أو فرد يسهم في الثورة الصينية ولا يدرك هذه الخاصية التاريخيّة لن يكون قادرا على توجيه هذه الثورة وقيادتها إلى النّصر، بل سوف ينبذه الشعب فيصبح معزولا خائبا يُرثى لحاله.

4- الثورة الصينية جزء من الثورة العالميّة

إنّ الخاصيّة التاريخيّة للثورة الصينيّة تكمن في أن تتحقق الثورة على خطوتين: الديمقراطية والاشتراكيّة، إلاّ أنّ الأولى لم تعد الآن الديمقراطية في شكلها العام، بل هي ديمقراطية خاصّة جديدة الطراز صينية النمط، ألا وهي الديمقراطية الجديدة. إذن كيف نشأت هذه الخاصيّة التاريخيّة؟ أ كانت موجودة منذ مائة سنة، أم لم تنشأ إلاّ منذ أمد قريب؟

بمجرّد دراسة مقتضبة لتاريخ تطوّر الصين والعالم نستطيع أن نعرف أنّ هذه الخاصيّة التاريخيّة لم تنشأ بعد حرب الأفيون مباشرة وإنّما نشأت بعد الحرب الإمبرياليّة العالميّة الأولى وثورة أكتوبر في روسيا. فلندرس الآن عمليّة نشوئها.

من الجليّ أنّه طالما كان المجتمع الصيني الحالي هو، من حيث طبيعته، مجتمع مستعمَر وشبه مستعمَر وشبه إقطاعي، يتحتم على الثورة الصينية أن تتحقق على خطوتين. فالخطوة الأولى هي تحويل هذا المجتمع المستعمَر وشبه المستعمَر وشبه الإقطاعي إلى مجتمع مستقلّ وديمقراطي. أمّا الخطوة الثانية فهي مواصلة الثورة قدما وبناء مجتمع اشتراكي. وإنّ الثورة الصينيّة تخطو في الوقت الحاضر خطوتها الأولى.

ولقد بدأت الفترة التحضيريّة للخطوة الأولى منذ حرب الأفيون عام 1840، أي منذ بدأ المجتمع الصيني يتحوّل من المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع شبه مستعمَر وشبه إقطاعي. ثمّ تبعت ذلك حركة مملكة التايبينغ السماويّة، والحرب الصينية الفرنسيّة، والحرب الصينية اليابانية، والحركة الإصلاحيّة عام 1898، وثورة 1911، وحركة 4 مايو (أيار)، والحملة الشمالية، وحرب الثورة الزراعية، وحرب المقاومة الحالية ضدّ اليابان، وقد استغرقت هذه الأحداث قرنا كاملا من الزمان، وإذا نظرنا إليها من زاوية معينة وجدناها جميعا تمثل تلك الخطوة الأولى، وجدناها جميعا نضالات خاضها الشعب الصيني في مناسبات مختلفة وبدرجات متفاوتة لتحقيق تلك الخطوة، نضالات ضدّ الإمبرياليّة والقوى الإقطاعيّة في سبيل بناء مجتمع مستقلّ وديمقراطي، في سبيل إكمال الثورة الأولى. وبتعبير أكثر دقة فإنّ ثورة 1911 تعتبر بداية هذه الثورة التي هي، من حيث طبيعتها الاجتماعيّة، ثورة ديمقراطية برجوازية وليست ثورة اشتراكية بروليتارية. ولم تصل هذه الثورة إلى نهايتها بعد، ولا تزال تتطلب جهودا جبارة، لأنّ أعداءها لا يبرحون حتّى اليوم أقوياء جدّا. وحين قال الدكتور صون يات صن: "إنّ الثورة لم تنتصر بعد، فيجب على رفاقنا أن يواصلوا النّضال"، كان يقصد بالثورة هذه الثورة الديمقراطية البرجوازيّة.

ومع ذلك، فقد طرأ تبدّل على الثورة الديمقراطية البرجوازية في الصين بعد انفجار الحرب الإمبريالية العالمية الأولى عام 1914 وتأسيس الدولة الاشتراكية على سدس الكرة الأرضية نتيجة لثورة أكتوبر الروسية عام 1917.

فقبل هذه الأحداث، كانت الثورة الديمقراطية البرجوازية الصينية تنتسب إلى الثورة الديمقراطية البرجوازية العالمية بمفهومها القديم وتشكل جزءا منها.

لكن الثورة الديمقراطية البرجوازية الصينية تبدلت منذ وقوع هذه الأحداث فأصبحت تنتسب إلى الثورة الديمقراطية البرجوازية بمفهومها الجديد، وهي تشكل، إذا نظرنا إليها من زاوية الجبهة الثوريّة، جزءا من الثورة الاشتراكيّة البروليتاريّة العالميّة.

لماذا؟ لأنّ الحرب الإمبريالية العالمية الأولى والثورة الاشتراكية الظافرة الأولى، ثورة أكتوبر، قد غيّرتا اتّجاه تاريخ العالم كلّه وافتتحتا عصرا جديدا.

ففي العصر الذي انهارت فيه الجبهة الرأسمالية العالمية في جزء من الكرة الأرضية (سدس مساحة الأرض) بينما ظهر للعيان تفسخ الرأسمالية في أجزائها الأخرى، العصر الذي أصبحت هذه الرأسمالية الباقية لا تستطيع أن تحيا فيه بدون مزيد من الاعتماد على المستعمرات وشبه المستعمرات، العصر الذي قامت فيه دولة اشتراكية وأعلنت رغبتها في خوض النضال من أجل دعم حركة التحرر في جميع المستعمرات وشبه المستعمرات، العصر الذي تتحرر فيه البروليتاريا في البلدان الراسمالية يوما فيوما من نفوذ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية – الأحزاب الاشتراكية الإمبريالية وتعلن تأييدها لحركة التحرر في المستعمرات وشبه المستعمرات – في هذا العصر إذا نشبت في أي بلد مستعمَر أو شبه مستعمَر ثورة موجّهة ضدّ الإمبرياليّة، أي ضدّ البرجوازيّة العالميّة والرّأسماليّة العالميّة، فهي لا تنتسب إلى الثورة الديمقراطية البرجوازية العالميّة بمفهومها القديم، بل تنتسب إلى مفهوم جديد؛ ولا تعد جزءً من الثورة العالميّة القديمة البرجوازية والرأسماليّة، بل تعدّ جزءً من الثورة العالمية الجديدة، أي جزءً من الثورة العالميّة الاشتراكية البروليتارية. وإنّ مثل هذه المستعمرات وشبه المستعمرات الثورية لم تعد تعتبر في عداد حليفات الجبهة الرأسماليّة العالميّة المضادّة للثورة، بل أصبحت حليفات للجبهة الاشتراكية العالمية الثوريّة.

وعلى الرّغم من أنّ مثل هذه الثورة في البلد المستعمر وشبه المستعمر لا تبرح خلال مرحلتها الأولى أو خطوتها الأولى ثورة ديمقراطية برجوازية بصورة أساسيّة من حيث طبيعتها الاجتماعيّة، وعلى الرغم من أنّ رسالتها الموضوعيّة هي تمهيد الطريق لتطوّر الرأسماليّة، إلاّ أنّها ليست ثورة من النمط القديم تقودها البرجوازية وتهدف إلى إقامة مجتمع رأسمالي ودولة خاضعة للدكتاتوريّة البرجوازيّة، بل هي ثورة جديدة تقودها البروليتاريا وتهدف، في مرحلتها الأولى، إلى إقامة مجتمع للديمقراطية الجديدة ودولة خاضعة للدكتاتورية المشتركة التي تمارسها جميع الطبقات الثورية. وهكذا فإنّ هذه الثورة من ناحية أخرى تقوم، على وجه التحديد، بتمهيد طريق أوسع وأرحب من أجل تطوّر الاشتراكية، وهي ستمرّ خلال سيرها بعدّة مراحل بسبب التبدلات الطّارئة على معسكر العدوّ وعلى صفوف الحلفاء، بيد أنّ طبيعتها الأساسيّة ستبقى كما هي دون تبدّل.

بما أنّ مثل هذه الثورة تضرب الإمبرياليّة ضربات حاسمة، فإنّ الإمبرياليّة لا تتقبّلها بل تناهضها. ولكن الاشتراكية تتقبّلها، فهي تلاقي التأييد والمساعدة من قبل الدولة الاشتراكية والبروليتاريا العالمية الاشتراكية.

ولذا فإنّ مثل هذه الثورة لا بدّ أن تصبح جزءً من الثورة العالمية الاشتراكية البروليتارية.

"إنّ الثورة الصينية جزء من الثورة العالمية"، هذا تعريف صحيح قد طرح منذ وقت بعيد يعود إلى مرحلة الثورة الصينية الكبرى الأولى الممتدة من 1924 إلى 1927، طُرح من قبل الشيوعيين الصينيين ولقي تأييدا من جميع أولئك الذين كانوا يشتركون حينئذ في النضال ضدّ الإمبرياليّة والإقطاعيّة. بيد أنّ هذه النظريّة لم يُوضّح مغزاها بصورة كاملة في تلك الأيّام، ولذلك لم يستطع الناس أن يفهموها بوضوح.

إنّ هذه "الثورة العالميّة" لم تعد ثورة عالميّة من النّمط القديم، لأنّ الثورة العالميّة البرجوازيّة القديمة قد دخلت حقيبة التاريخ، وإنّما هي الثورة العالميّة الجديدة، الثورة العالميّة الاشتراكيّة. وكذلك فإنّ عبارة "جزء" لا تعني جزءا من الثورة البرجوازية القديمة، بل جزءا من الثورة الاشتراكية الجديدة. وهذا تبدّل هائل لم يسبق له مثيل في تاريخ الصين والعالم.

إنّ هذا التعريف الصّحيح الذي طرحه الشيوعيون الصينيون يستند إلى نظرية ستالين.

فقد قال ستالين في مقال كتبه في عام 1918 احياءً للذّكرى الأولى لثورة أكتوبر:

"إنّ المغزى العالمي العظيم لثورة أكتوبر يتمثّل بصورة رئيسية في أنّها: 1) وسّعت إطار المسألة القوميّة إذ حوّلتها من مسالة جزئيّة خاصّة بالنضال ضدّ الاضطهاد القومي في أوروبا إلى مسالة عامّة متعلّقة بتحرّر الأمم المضطهَدة والمستعمرات وشبه المستعمرات من نير الإمبريالية؛ 2) أتاحت إمكانيات عريضة وشقّت طرقا واقعيّة نحو تحقيق هذا التحرّر، وهي بذلك دفعت كثيرا قضيّة تحرّر الأمم المضطهَدة في الغرب والشرق واجتذبت هذه الأمم إلى التيار العارم للنضال الظّافر ضدّ الإمبرياليّة؛ 3) أنشأت بذلك جسرا بين الغرب الاشتراكي والشّرق المستعبَد، إذ خلقت جبهة جديدة من الثورات ضدّ الإمبرياليّة العالميّة تمتدّ من البروليتاريا في الغرب، عبر الثورة الرّوسيّة، إلى الأمم المضطهَدة في الشّرق."(5)

لقد أوضح ستالين مرارا، بعد هذا المقال، النظريّة القائلة بأنّ الثورات في المستعمرات وشبه المستعمرات قد انفصلت عن مفهومها القديم وأصبحت جزءا من الثورة الاشتراكية البروليتارية. وقد شرح ذلك بصورة أكثر وضوحا ودقة في مقال نشره بتاريخ 30 يونيو (حزيران) 1925، في جداله مع القوميين اليوغسلاف في ذلك الحين. وهذا المقال الذي يحمل عنوان "مزيد من القول حول المسألة القوميّة" وارد في كتاب "حديث ستالين عن المسألة القوميّة" الذي ترجمه تشانغ تشونغ شي، وهو يتضمّن الفقرة التالية:

"اقتبس سيميتش من كتيب "الماركسيّة والمسألة القوميّة" الذي كتبه ستالين في أواخر 1912 عبارة "إنّ النضال القومي في ظروف الرأسماليّة الصّاعدة هو نضال يجري فيما بين الطبقات البرجوازيّة." ومن الواضح أنّ سيميتش كان يحاول بذلك ان يلمّح إلى صحّة ذلك التعريف الذي وضعه هو للمغزى الاجتماعي للحركة القوميّة في الظروف التاريخيّة الرّاهنة. بيد أنّ كتيّب ستالين ذلك أُلّف قبل الحرب الإمبرياليّة حيث أنّ المسألة القوميّة لم تصبح بعد في نظر الماركسيين مسألة ذات مغزى عالميّ، وكان مطلب الماركسيين الأساسي حول حقّ الأمم في تقرير مصيرها لا يُعتبر جزءا من الثورة البروليتاريّة، بل هو جزء من الثورة الديمقراطية البرجوازية. ومن المضحك ألاّ يرى المرء بوضوح أنّ الوضع الدّولي قد تغيّر بصورة جذريّة منذ ذلك الحين، وأنّ الحرب وثورة أكتوبر في روسيا قد حوّلتا المسألة القوميّة من كونها جزءا من الثورة الديمقراطية البرجوازيّة إلى جزء من الثورة الاشتراكيّة البروليتاريّة. وقد قال لينين منذ وقت بعيد يعود إلى أكتوبر (تشرين الأوّل) 1916 في مقاله "تلخيص للمناقشة حول حق الأمم في تقرير مصيرها": "إنّ النقطة الأساسيّة في المسألة القوميّة، وهي حق الأمم في تقرير مصيرها، لم تعد جزءا من الحركة الديمقراطية بمعناها العام، إذ أنّها قد أصبحت جزءا من الثورة الاشتراكيّة البروليتاريّة بمعناها العام". ولا داعي لأن أشير إلى المؤلفات اللاحقة التي كتبها لينين والممثلون الآخرون للشيوعيّة الرّوسيّة عن المسألة القوميّة. وبعد كلّ هذا فما هو الذي يبيّنه استشهاد سيميتش، في الوقت الحاضر، بتلك الفقرة الواردة في كتيب ستالين المكتوب في مرحلة الثورة الديمقراطية البرجوازيّة في روسيا، بعد أن دخلنا بحكم الوضع التاريخي الجديد عصرا جديدا عصر الثورة البروليتاريّة؟ إنّه لا يبيّن إلاّ أنّ سيميتش استشهد بتلك الفقرة بصرف النّظر عن الزّمان والمكان والوضع التاريخي المتغيّر، فخالف بذلك أبجديات الديالكتيك متجاهلا بأنّ ما هو صحيح قي ظرف تاريخيّ معيّن قد يكون خاطئا في ظرف تاريخيّ آخر."

ويتبيّن من ذلك أنّ هناك نوعان من الثورة العالميّة: النّوع الأوّل ينتسب إلى الثورة العالميّة من النّمط البرجوازي أو الرّأسمالي. ولقد انقضى عهده منذ زمن طويل، إذ انتهى حين اندلعت الحرب الإمبرياليّة العالميّة الأولى عام 1914، وعلى وجه الدقّة منذ ثورة أكتوبر الروسيّة عام 1917. وحينذاك بدأ النوع الثاني، ألا وهو الثورة العالميّة الاشتراكيّة البروليتاريّة. وانّ القوّة الرئيسيّة في هذه الثورة هي بروليتاريا البلدان الرأسماليّة، والقوى الحليفة هي الامم المضطهَدة في المستعمرات وشبه المستعمرات. وما دامت الطبقات في الأمم المضطهَدة أو الأحزاب أو الجماعات السياسيّة أو الأفراد المشتركة في الثورة تناهض الإمبريالية فإنّ هذه الثورة ستصبح – كائنا ما كانت هذه الطبقات أو الأحزاب أو الجماعات السياسية أو الأفراد، وسواء وعت وأدركت هذه النقطة أم لا – ستصبح جزءا من الثورة العالميّة الاشتراكيّة البروليتاريّة وتصبح حليفة لها.

لقد اكتسبت الثورة الصينية اليوم مغزى أعظم من ذي قبل، ونعيش اليوم في عصر تدفع فيه أزمات الرأسماليّة الاقتصادية والسياسيّة العالم أكثر فأكثر إلى الحرب العالميّة الثانية، في عصر دخل فيه الاتحاد السوفياتي مرحلة الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية وأصبح قادرا على قيادة البروليتاريا والأمم المضطهَدة في سائر أنحاء العالم ومساعدتها في مقاومة الحرب الإمبريالية وفي تسديد الضربات للرجعيّة الرأسماليّة، في عصر تستعدّ فيه البروليتاريا في البلدان الرأسمالية للإطاحة بالرأسمالية وتحقيق الاشتراكية، في عصر أصبحت فيه البروليتاريا وطبقة الفلاحين والمثقفون والفئات الأخرى من البرجوازية الصغيرة في الصين قوة سياسية مستقلة كبيرة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني. أ فلا ينبغي لنا اليوم ونحن في مثل هذا العصر أن نضع في اعتبارنا أنّ الثورة الصينية اكتسبت مغزى عالميا أعظم من ذي قبل؟ أعتقد ذلك. فقد أصبحت الثورة الصينية جزءا بالغ الأهمية من الثورة العالميّة.

وعلى الرّغم من أنّ الثورة الصينية في المرحلة الأولى هذه (بمراحلها الصغيرة المتعددة) هي، من حيث طبيعتها الاجتماعيّة، ثورة ديمقراطية برجوازية من نمط جديد ولم تصبح بعد ثورة اشتراكية بروليتارية، إلاّ أنها قد أصبحت منذ زمن طويل جزءا من الثورة العالمية الاشتراكية البروليتارية، بل أصبحت بالأحرى في الوقت الحاضر جزءا بالغ الأهمية من هذه الثورة العالميّة وحليفا عظيما لها. إنّ الخطوة الأولى أو المرحلة الأولى لهذه الثورة لن تكون، ولا يمكن أن تكون إقامة مجتمع رأسمالي خاضع لدكتاتورية البرجوازية الصينية، بل ستنتهي هذه المرحلة الأولى بإقامة مجتمع للديمقراطية الجديدة خاضع للدكتاتورية المشتركة لجميع الطبقات الثورية في الصين بزعامة البروليتاريا الصينية. ومن ثمّ ستتطور هذه الثورة إلى المرحلة الثانية التي سيقام فيها مجتمع اشتراكي في الصين.

هذه هي أهمّ الخصائص الأساسية للثورة الصينيّة في الوقت الرّاهن، ومجرى الثورة الجديد خلال السنوات العشرين الأخيرة (اعتبارا من حركة 4 مايو-أيار 1919)، وهذا هو المضمون الحيّ الملموس للثورة الصّينيّة الحاليّة.

________________________________________________________________

(1) "الثقافة الصينية" مجلّة تأسست في يناير (كانون الثاني) 1940 في يانآن. وقد نشرت مقالة "حول الديمقراطية الجديدة" هذه أوّل ما نشرت في عددها الأوّل.

(2) عبارة "السياسة هي التعبير المركّز عن الاقتصاد" وردت في مقالة لينين "مزيد من القول حول النقابات والوضع الراهن وأخطاء تروتسكي وبوخارين".

(3) مأخوذ من مقدمة "نقد علم الاقتصاد السياسي"، تأليف كارل ماركس.

(4) انظر مقالة ماركس: "موضوعات عن فيورباخ"، المادّة الحادية عشرة.

(5) مأخوذ من مقالة "ثورة أكتوبر والمسألة القوميّة"، تأليف ستالين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق