حول الدّيــــن
فريديريك انجلس
"و لكن الدين، أيّا كان، ما هو إلاّ
انعكاس خيالي في أذهان الناس للقوى الخارجية التي تسيطر عليهم في حياتهم اليوميّة،
و هو انعكاس تتّخذ فيه القوى الأرضيّة شكل القوى غير الأرضيّة. في بداية التاريخ
كانت مواد هذا الانعكاس بالدرجة الأولى قوى الطبيعة التي تمرّ في التطوّر اللاحق
عند مختلف الشعوب عبر مختلف أنواع التجسيدات المبرقشة. و قد تمّت متابعة هذه
العمليّة الأوّليّة عن طريق الميثولوجيا المقارنة – عند الشعوب الهنداوروبية على
الأقل – حتّى ظهورها الأوّل في الآثار الأدبية الهندية؛ و في التطوّر اللاحق لهذه
العمليّة فيما بعد درست بالتفصيل عند الهندوس و الفرس والإغريق والرومان و الجرمن،
و كذلك عند الكيلتيين و الليتوانيين و السلاف بقدر ما تسمح به المواد المتوفّرة.
ولكنّه سرعان ما ظهر إلى جانب قوى الطبيعة، مفعول القوى الاجتماعية – و هي القوى
المجابهة للإنسان بنفس القدر من الغربة و المجهولية في البداية كالذي يلازم قوى
الطبيعة، و هي، شأنها شأن قوى الطبيعة، تسيطر عليه بنفس الضرورة التي تبدو وكأنّها طبيعيّة. إنّ الصّور الخيالية التي انعكست فيها، بادئ ذي بدء، القوى
السحرية للطبيعة فقط اكتسبت الآن مستلزمات اجتماعية وصارت ممثّلة لقوى تاريخيّة*. و في درجة تطوّرية لاحقة انتقل مجمل المستلزمات الطبيعية والاجتماعية
لتعدد الآلهة إلى اله واحد كلّي الجبروت ما هو، بدوره، إلاّ انعكاس لإنسان تجريدي.
وهكذا ظهرت الوحدانية التي كانت من الناحية التاريخية آخر نتاج للفلسفة اليونانية
المبتذلة في عصر لاحق و وجدت تجسيدا جاهزا لها في الاله اليهودي القومي الصرف
يهوا. و بهذا الشكل المريح في الاستعمال و المتكيف لكل شيء يستطيع الدين ان يواصل
وجوده كشكل مباشر، أي شعوري، لموقف البشر من القوى الغريبة، الطبيعية و
الاجتماعية، المهيمنة عليهم طالما انهم باقون في الواقع تحت سلطة هذه القوى. و
لكنّنا رأينا مرارا أنّ ما يسيطر على الناس في المجتمع البرجوازي المعاصر، كقوّة
غريبة عليهم، هو العلاقات الاقتصادية التي خلقوها بأنفسهم، و وسائل الإنتاج التي
صنعوها بأنفسهم. و هكذا يظل قائما الأساس الفعلي للانعكاس الديني للواقع، و مع هذا
الأساس يظل باقيا انعكاسه في الدين. و مع أنّ الاقتصاد السياسي البرجوازي يقدّم
بعض الفهم للصلة السببية لسيطرة القوى الغريبة هذه، إلاّ أنّ الحال لا يتغيّر قيد
أنملة من جرّاء ذلك. إنّ الاقتصاد السياسي البرجوازي عاجز عن درء الأزمات عموما و
عن حماية الرأسمالي من الخسائر و من الديون الميئوس منها و من الإفلاس و عن تخليص
العامل من البطالة والبؤس. و لا يزال مستعملا حتّى الآن القول المأثور : الإنسان
يظن والله (أي سيطرة قوى أسلوب الإنتاج الرأسمالي الغريبة على الإنسان) يقدّر.
إنّ المعرفة وحدها، حتّى إذا سارت إلى أبعد و
أعمق من إدراك الاقتصاد السياسي البرجوازي، غير كافية لإخضاع القوى الاجتماعية
لسيطرة المجتمع. فإنّ ذلك يتطلّب بالدرجة الأولى فعلا اجتماعيا. و عندما يتحقق هذا
الفعل، عندما يضع المجتمع يده على مجمل وسائل الإنتاج و يوجّهها بموجب التخطيط، و
يحرّر بذلك نفسه و جميع أفراده من العبودية التي تفرضها عليهم الآن وسائل الإنتاج
التي صنعوها بأنفسهم و لكنّها تعارضهم كقوّة غريبة قاهرة، و عندما سيتمكّن الإنسان
بالتالي ليس من أن يظنّ فقط بل و أن يقدّر أيضا – عند ذلك تختفي آخر قوّة غريبة لا
تزال حتّى الآن تنعكس في الدّين، و يختفي معها الانعكاس الديني نفسه، لسبب بسيط هو
أنّه لن يعود هناك ما يعكسه".
---------------
* إنّ هذا الطابع المزدوج الذي اكتسبته فيما بعد صور
الآلهة كان هو السبب في التشوش الذي ظهر بعد ذلك في الميثولوجيات – وهو السبب
الذي فوّتته الميثولوجيا المقارنة و ظلت ترى في الآلهة، من جانب واحد، انعكاسا
لقوى الطبيعة وحدها. فلدى بعض القبائل الجرمانية، مثلا، كان إله الحرب يسمى
بالاسكندينافية القديمة "تير"، و بالألمانية القديمة العليا
"تسيو"، و ذلك يقابل "زيوس" الإغريقي و "جوبيتير"
اللاتيني ("جوبيتير" بدلا من "ديو-بيتير")، و كان يسمّى عند
قبائل أخرى "ار" و "اور"، ممّا يطابق "اريس"
الإغريقي و "مارس" اللاتيني.
انجلس، ضد
دوهرنج: ثورة السيد اوجين دوهرنج في العلوم، دار التقدم، موسكو، 1984، ص. ص.
366-368.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق