15‏/3‏/2012

مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية لينيـــــــــن


مصائـر مذهب كـارل ماركـس التاريخيــة (1)

   إنّ الرّئيسي في مذهب ماركس، هو انّه أوضح دور البروليتاريا التاريخي العالمي، بوصفها بانية العالم الاشتراكي. فهل اكّد مجرى الأحداث في العالم بأسره صحّة هذا المذهب منذ ان عرضه ماركس ؟
   لقد صاغ ماركس هذا المذهب للمرّة الأولى في عام 1844. و"البيان الشيوعي"، الذي كتبه ماركس وانجلس، والذي صدر عام 1948، يعطي عن هذا المذهب عرضا كاملا منهاجيّا، هو خير عرض لهذا المذهب حتّى اليوم. و مذ ذاك ينقسم التاريخ العالمي بوضوح إلى ثلاث مراحل رئيسية: 1) من صورة 1848(2) إلى كومونة باريس (1871)(3)، 2) من كومونة باريس إلى الثورة الروسية (1905)، 3) ابتداءً من الثورة الروسية.
   لنر إلى مصائر مذهب ماركس في كلّ من هذه المراحل.

1
   في بداية المرحلة الأولى، كان مذهب ماركس أبعد من أن يكون المذهب السائد. فلم يكن سوى فرع أو تيّار من فروع أو تيّارات الاشتراكية، الكثيرة جدّا. أمّا الأشكال التي كانت سائدة في الاشتراكية، فقد كانت الاشكال التي تتقارب، من حيث الجوهر، مع "الشعبية"(4) عندنا: عدم فهم الأساس المادي للتطور التاريخي، العجز عن اكتناه دور و أهمية كلّ من طبقات المجتمع الرأسمالي، تمويه الطبيعة البرجوازية للتحولات الديمقراطية بمختلف التعابير الاشتراكية المزيفة حول "الشعب"، و "العدالة"، و"الحق" الخ..
   و قد جاءت ثورة 1948 تسدّد ضربة قاتلة لجميع هذه الأشكال الصاخبة، المبرقشة، اللاغطة، لاشتراكية ما قبل ماركس. ففي جميع البلدان، أظهرت الثورة مختلف طبقات المجتمع قيد النشاط والعمل. و جاءت مذبحة العمّال من جانب البرجوازية الجمهوريّة في أياك حزيران (يونيو) 1848، بباريس، تحدّد نهائيا الطبيعة الاشتراكية للبروليتاريا وللبروليتاريا وحدها. فإنّ البرجوازية الليبرالية قد خشيت استقلال هذه الطبقة أكثر ممّا خسيت الرجعية ايّا كانت بمئة مرّة. و قد زحفت الليبرالية الجبانة أمام هذه الرجعية. واكتفى الفلاحون بإلغاء بقايا الإقطاعية وانتقلوا إلى جانب النظام؛ ونادرا ما تجرجروا بين الديمقراطية العمالية وبين الليبرالية البرجوازية. و تكشف جميع المذاهب التي تقول باشتراكية لاطبقية، و بسياسة لاطبقية، عن ثرثرة باطلة.
   و كانت كومونة باريس (1871) خاتمة هذا التطوّر من التحوّلات البرجزاوية. و فقط لبطولة البروليتاريا، تدين الجمهورية برسوخها، أي هذا الشكل من تنظيم الدّولة، الذي تتجلّى فيه العلاقات بين الطبقات بأقلّ المظاهر تمويها.
   و في جميع البلدان الأوروبية الأخرى كان التطور أشدّ غموضا و أقلّ اكتمالا، إلاّ أنّه أدّى إلى نشوء مجتمع برجوازي كامل التطوّر.
   و في أواخر المرحلة الأولى (1848- 1871)، مرحلة العواصف و الثورات، ماتت اشتراكية ما قبل ماركس؛ و ولد حزبان بروليتاريان مستقلأّن: الاممية الأولى (1864- 1872)(5) و الاشتراكية- الديمقراطية الالمانية.

2
   تمتاز المرحلة الثانية (1872- 1904) عن المرحلة الأولى بطابعها "السلمي"، بانعدام الثورات. فقد انتهى الغرب من الثورات البرجوازية، و لمّا ينضج الشذرق لهذه الثورات.
   و دخل الغرب في مرحلة التحضير "السلمي" لعهد التحويلات المقبلة: ففي كلّ مكان تشكّلت أحزاب اشتراكية، أساسها بروليتاري، أخذت تتعلّم استخدام البرلمانية البرجوازية، وإصدار صحافتها اليوميّة، وإنشاء مؤسساتها التثقيفية، و نقاباتها، و تعاونياتها. واحرز مذهب ماركس انتصارا كاملا و أخذ يمتد ويتّسع. و ببطء، و لمن برسوخ، تطوّر انتقاء وحشد قوى البروليتاريا، وإعدادها للمعارك المقبلة.
   إنّ ديالكتيك التاريخ يرتدي شكلا يُجبر معه يجبر معه انتصار الماركسية في حقل النظرية أعداء الماركسية على التقنع بقناع الماركسية. و قد حاولت الليبرالية، المهترئة في داخلها، أن تستأنف نشاطها تحت ستار الانتهازية الاشتراكية. و قد فسّروا مرحلة إعداد القوى للمعارك الكبيرة بانّها عدول عن هذه المعارك. و كانوا يقولون إنّ تحسين أوضاع العبيد بغية النضال ضدّ العبودية المأجورة ينبغي أن يجري بطريقة يتنازل فيها العبيد عن حقوقهم في الحرية لقاء فلس واحد. و كانوا يدعون بجبن إلى "السلام الاجتماعي" (أي إلى السلام مع العبودية)، و إلى الإقلاع عن النّضال الطبقي، الخ.. و كان لهم أنصار عديدون جدّا بين البرلمانيين الاشتراكيين و بين مختلف الموظّفين في الحركة العمالية و بين المثقفين "المحبذين".

3
   و كان الانتهازيون لمّا ينتهوا من تمجيد "السلام الاجتماعي" و إمكانية اجتناب العواصف في ظلّ "الديمقراطية" حتّى تفجّر في آسيا ينبوع جديد من العواصف العالمية الكبيرة. فبعد الثورة الروسية، قامت الثورة التركية، والإيرانية، والصينية(6). و إننا لنعيش اليوم بالضبط في عصر هذه العواصف و"تأثيرها بالاتجاه المعاكس" في اوروبا. و ايّا كان مصير الجمهورية الصينية العظيمة، التي تستثير اليوم لعاب شتّى أضراب الضباع "المتمدّنة"، فما من قوّة في العالم تستطيع أن تعيد الإقطاعية القديمة في آسيا، و لا ان تكنس من على سطح الأرض النزعة الديمقراطية الباسلة لدى الجماهير الشعبية في البلدان الآسيوية وشبه الآسيوية.
   إنّ المماطلات الطويلة لخوض نضال حاسم ضدّ الرأسمالية في أوروبا قد دفعت إلى احضان اليأس والفوضوية بعض الناس الذين قليلا ما يهتمون بشروط تحضير النضال الجماهيري وبشروط تطويره. وإنّنا لنرى الآن إلى أيّ حدّ من صغر النفس وقصر النظر يبلغ هذا الياس و هذه الفوضويّة.
   إنّ ما ينبغي أن نستمدّه من كون آسيا التي تعدّ ثمانمئة مليون إنسان قد انجلبت إلى غمرة النضال في سبيل نفس المثل العليا الأوروبية، ليس اليأس، بل الشجاعة.
   إنّ الثورات الآسيويّة قد بيّنت لنا نفس ما تتّصف به الليبرالية من ميوعة وخساسة، نفس الدّور الاستثنائي الذي يضطلع به استقلال الجماهير الديمقراطية، نفس التمايز الدقيق بين البروليتاريا و بين البرجوازية من كلّ شاكلة وطراز. إنّ من يتحدّث، بعد تجربة أوروبا و آسيا، عن سياسة لاطبقية و عن اشتراكية لاطبقية، إنّما لا يستحقّ غير وضعه في قفص و عرضه إلى جانب كنغر اوسترالي.
   و على أثر آسيا، أخذت أوروبا تتحرّك و لمن على غير الطريقة الآسيويّة. لقد ولّت إلى الابد المرحلة "السّلمية"، مرحلة 1872- 1904؛ فإنّ الغلاء و وطأة التروستات يؤديان إلى تفاقم النضال الاقتصادي تفاقما لا سابق له، تفاقم هزّ العمّال الانجليز بالذات، الذين افسدتهم الليبرالية أكثر من سائر العمّال. وأمام أنظارنا، تنضج أزمة سياسية، حتّى في أكثر بلدان البرجوازية و اليونكر+ "عصمة"، أي في المانيا. غنّ جنون التسلّح و السياسة الغمبريالية يجعلان من أوروبا الحالية "سلاما اجتماعيا" يشبه بالاحرى برميلا من البارود. ناهيك بأنّ تفسّخ جميع الأحزاب البرجوازية ونضوج البروليتاريا ما ينفكّان في اطّراد دائم.
   منذ ظهور الماركسيّة، جاءت لها كلّ من المراحل الكبيرة الثلاث من التاريخ العالمي بتأكيدات جديدة وبانتصارات جديدة. و لكن المرحلة التاريخية المقبلة ستحمل للماركسيّة، بوصفها مذهب البروليتاريا، انتصارا أروع أيضا.

ف. ا. لينين، البرافدا، العدد 50، 1 آذار/مارس 1913.

---------------------------
   1- كتب لينين مقال "مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية" بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة كارل ماركس.
   2- المقصود هنا ثورات 1848- 1849 أي الثورات البرجوازية الديمقراطية و الثورات البرجوازية التي جرت في فرنسا وايطاليا والمانيا والنمسا والمجر.
   3-  كومونة باريس، هي حكومة ثورية للطبقة العاملة انشاتها الثورة البروليتارية في باريس في عام 1871 وهي اوّل حكومة لدكتاتورية البروليتاريا في التاريخ. دامت 72 يوما من 18 آذار (مارس) إلى 28 أيار (مايو).
   4- الشعبية، تيار برجوازي صغير في الحركة الثورية الروسية نشا في السنوات السبعين من القرن التاسع عشر. كان الشعبيون يسعون إلى تصفية الأوتوقراطية وتسليم أراضي الملاكين العقاريين إلى الفلاحين. و لكنّهم انكروا قانونية تطوّر العلاقات الرأسمالية في روسيا، واؤتباطا بهذا، اعتبروا انّ القوّة الثورية الرئيسية ليست البروليتاريا بل الفلاحون. و راوا في المشاعة الريفية جنين الاشتراكية. و قد ذهب الشعبيون إلى القرية، "إلى الشعب" سعيا منهم لحث الفلاحين على النضال ضد الأوتوقراطية، غير انّهم لم يلقوا التاييد هناك.
   و في السنوات الثمانين و التسعين من القرن التاسع عشر، سار الشعبيون في طريق المصالحة مع القيصرية، و عبّروا عن مصالح فئة الكولاك، وشنّوا نضالا ضاريا ضدّ الماركسية.
   5- الأممية الأولى، (جمعية الشغيلة العالمية)، أوّل اتحاد ثوري عالمي جماهيري للبروليتاريا في التاريخ؛ اسسه كارل ماركس في عام 1864. أرست الأممية الأولى أساس تنظيم العمال على الصّعيد العالمي، و أساس النضال البروليتاري العالمي من اجل الاشتراكية. و بذلك أدّت الأممية الأولى مهمتها من حيث جوهر الأمر. وقد توقّف نشاط الاممية عمليا في عام 1872، و جرى حلّها رسميّا في عام 1876.
   6- كان للثورة الروسية في 1905- 1907 تأثير هائل على تطوّر حركة التحرر الوطني في عدد من البلدان.
   فإنّ الحركة الثورية البرجوازية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في تركيا قد بلغت ذروتها في عام 1908 بتأثير الثورة الروسية. و نتيجة للانتفاضة التي قام بها الجيش التركي بقيادة رجال تركيا الفتاة، أعيد دستور عام 1876 و دعي البرلمان إلى الانعقاد.
   و في إيران (بلاد فارس)، اشتدت الحركة الثورية المعادية للإقطاعية و المعادية للإمبريالية بعد ثورة 1905- 1907 في روسيا. و كانت البرجوازية التجارية والصناعية تترأّس هذه الحركة. و في مجرى الثورة، انعقد اوّل برلمان في تاريخ إيران، ووضع هذا البرلمان في عام 1906 دستورا. و لا يزال هذا الدستور ساري المفعول حتى الآن مع بعض التعديلات. و نتيجة لتدخل الامبرياليين الأجانب، تمّ قمع الثورة في بلاد فارس، و تقاسمت بريطانيا و روسيا بلاد فارس إلى منطقتي نفوذ وقضتا على مكاسب الثورة.
   و في الصين، ناضلت البرجوازية في سنوات 1905-1911 من أجل الدستور واستقلال الأقاليم الذاتي، ورفعت شعار النضال ضد الامبريالية. و في السنوات ذاتها، تنامت الحركة الثورية في صفوف العمال والفلاحين أيضا. و في سنة 1911، أطيح بالسلالة المنشورية، و أعلنت الصين جمهورية. وانتخب الديمقراطي الثوري صن يات صن رئيسا مؤقتا للجمهورية. و لكنّه اضطرّ إلى التخلي عن هذا المنصب تحت ضغط القوى المعادية للثورة، و أصبح المغامر يوان شي- كاي رئيسا للجمهورية وفرض في البلد نظام دكتاتورية عسكرية معادية للثورة.
× اليونكر، طبقة من كبار ملاّكي الأراضي النبلاء في بروسيا، الناشر.
---------
المصدر: لينين، مختارات، الجزء الأول، دار التقدم، موسكو، 1977، ص ص. 15-20. عن:
لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 23، ص ص. 1-4.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق